الثلاثاء، 20 جويلية 2010

دلالات عنوان في ظلال القرآن

دلالات عنوان " في ظلال القرآن" لسيد قطب

حين أراد سيد أن يجعل لمقالاته التفسيرية في مجلة المسلمون عنوانا لا بدّ وأنه قد مرّ بذهنه وفكره عناوين شتّى يختار منها ما يرنّ في الآذان و ما من شأنه أن يجلب القارئ ويلفت انتباهه ولكن قبل هذا وذاك ـــ وهذا هو أصل العنوان ـــ ما يعبّر عن موضوع المقالات عن المادة المقدمة عن محتواها أسلوب تقديمها عن الأهداف والغايات المتوخاة منها ....

فالعنوان لا يضعه صاحبه اعتباطا واتفاقا بل لا بدّ من انتقائه ووفق معايير عدّة متعلقة بالموضوع أو المنهج أو الهدف .....إلخ ...

ونحن إذْ نهتم بعنوان الظلال فلأننا نريد أن نستنبط منه بعض ما يفيدنا ويهمنا في الوقوف على منهجه وأسلوبه في التفسير ....

ولعل أوّل ملاحظة نسجلها حول عنوان الظلال أنّ صاحبه لم يتكلّفه بمعنى أنّه كان صادقا في اختياره وأنّه شيء وجده وشعر به وأحسّ به من خلال طول تعامله مع القرآن الكريم ....

يقول عليه رحمة الله في مقدمة الطبعة الأولى : "...عنوان لم أتكلفه , فهو حقيقة عشتها في الحياة .... فبين الحين والحين كنت أجد في نفسي رغبة خفية في أن أعيش في ظل القرآن فترة , أستروح فيها ما لا أستروحه في ظل سواه ...."[1]

إنّ لفظة الظلال في العنوان لها مدلولان ؛ مدلول اصطلاحي أدبي نقدي خالص اختصّ به سيد من دون سائر النقاد ومدلول لغوي

فأما المدلول اللغوي فلعله قصد بالظلال ذلك الشعور الذي نتج عن طول ملازمته للقرآن الكريم أو لعل ورعه هو الذي دفعه إلى تجنب التعبيرات المباشرة كتفسير القرآن أو تأويله أو في خضمه أو كنفه أو معه أو وسطه أو فيه ....إلخ... فكأنّ الظلال هو ما يشعر به من ملازمة القرآن وكأنّ سيد يتناول بالدراسة هذه الظلال لا عين القرآن وذاته ....

وسنحاول في هذا المبحث التنصيص على جميع هذه الدلالات والتنقيب عن أثرها في تفسيره رحمه الله ...

أولا الشعور الناتج عن طول ملازمته للقرآن الكريم :

يقول شقيقه محمد قطب في تقديمه وتقريظه للطبعة المنقحة : " في ظلال القرآن ... الكتاب الذي عاشه صاحبه بروحه وفكره وشعوره وكيانه كلّه ... وعاشه لحظة لحظة , وفكرة فكرة , ولفظة لفظة ... وأودعه خلاصة تجربته الحيّة في عالم الإيمان ...." [2]

ويقول المفسّر في مقدمة ذات الطبعة : " الحياة في ظلال القرآن نعمة. نعمة لا يعرفها إلاّ من ذاقها . نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه . والحمد لله ... لقد منَّ الله عليّ بالحياة في ظلال القرآن فترة من الزمان , ذقت فيها من نعمته ما لم أذقه من قبل قطّ في حياتي . ذقت فيها هذه النعمة التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه .

لقد عشت أسمع الله ـــ سبحانه ـــ يتحدث إليّ بهذا القرآن ... أنا العبد القليل الصغير ... أيّ تكريم للإنسان هذا التكريم العلوي الجليل ؟ أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل ؟ أي مقام كريم يتفضل به على الإنسان خالقه الكريم ؟..."[3] ثم راح عليه رحمة الله يعدد فضائل ونعم العيش في ظلال القرآن الكريم وما استفاده من طول ملازمته له من الناحية العقائدية والفكرية والمنهجية والشعورية والسلوكية والأدبية [4].... إلى أن قال : "هذه بعض الخواطر والانطباعات من فترة الحياة في ظلال القرآن . لعل الله ينفع بها ويهدي . وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله " [5]

ولقد كان لطول ملازمته لكتاب الله آثار كثيرة في تفسيره ربّما أبرزها الوحدة الموضوعية للقرآن كلّه وللسوّر جميعها كلّ واحدة على حدة هذه الوحدة الموضوعية التي يكاد ينفرد بها سيد قطب إذا رعينا الحجم والشكل اللذين عرضها بهما

ثم التفسير الموضوعي حيث أنّ الدراية الكبيرة بالقرآن الكريم و مواضع آياته واستحضارها في الوقت المناسب لا يتأتى إلاّ لمن طالت ملازمته ومعاملته مع كتاب الله

هذا إضافة إلى وقوفه على كلّ جزئيات الآية , فإنّ الكثير من ألفاظ القرآن الكريم التي يقرأها الواحد منّا ولا يلاحظ فيها إلا مفردات تؤدي معانٍ معيّنة ... يقف عندها سيد مليّاً ليستنبط من المعاني والأحكام ما لم يكن القارئ العادي يتخيله حتى و ما ذاك إلاّ لطول ملازمته لكتاب الله تعالى

ثانيا استعماله لفظة الظلال ورعا من أن يوجه فهمه ورأيه وتفسيره للقرآن مباشرة

وقد تحدث وأبان عن هذا الورع في عدة مواضع من تفسيره فهو يقول على سبيل المثال : "... ومع هذا كلّه يصيبني رهبة ورعشة كلّما تصديت للترجمة عن هذا القرآن , إنّ إيقاع هذا القرآن المباشر في حسي محال أن أترجمه في ألفاظي وتعبيراتي , ومن ثمّ أحس دائما بالفجوة الهائلة بين ما أستشعره منه , وما أترجمه للناس في هذه الظلال ..."[6]

ولما عرض لتفسير قوله تعالى {تلك الرسل} في سورة البقرة وعرض مجموعة من الأسئلة , من هم ؟ ما الرسالة ؟ ما طبيعتها ؟ كيف تتم ؟ لماذا هؤلاء وحدهم هم الرسل ؟ وبماذا ؟ .... قال عليه رحمة الله : "أسئلة طالما أشفقت أن أبحث لها عن جواب إنّ حسي ليفعم بمشاعر ومعان لا أجد لها كفاء من العبارات ... ولكن لا بدّ من تقريب المشاعر والمعاني بالعبارات ..."[7]

ولقد كان لهذا الورع أثره البارز في متهجية تفسير سيد للآيات المتعلقة بالغيبيات والآيات التي حوت بعض المبهمات وقد عقدنا مباحث خاصة لذا نكتفي هاهنا بمجرد الإشارة للتأثير على منهجه في التفسير

ثالثا نظرية سيد قطب النقدية القائمة على أنّ للعبارات إيقاعا وصورا وظلالا يستشعرها القارئ غير اللفظ والمعني منفردين أو مجتمعين :

إنّ لسيد قطب نظرية في النقد الأدبي تجاوزت نظرية اللفظ والمعنى والنظم إلى ما هو أبعد من ذلك وأوسع ؛ إنّها نظرية الإيقاع والصور والظلال في النص الأدبي ...

يقول عليه رحمة الله : " العمل الأدبي وحدة مؤلفة من الشعور والتعبير . وهي وحدة ذات مرحلتين متعاقبتين في الوجود بالقياس الشعوري ... ولكنها بالقياس الأدبي متحدتان في ظرف الوجود ..."[8]

واصطلاح التعبير أوسع عنده من اصطلاحي اللفظ والمعنى منفردين ومجتمعين (نظرية النظم ) لأنّ "وظيفة التعبير في الأدب لا تنتهي عند الدلالة المعنوية للألفاظ والعبارات بل تضاف إلى هذه الدلالات مؤثرات أخرى يكمل بها الأداء الفني , وهي جزء أصيل من التعبير الأدبي . هذه المؤثرات هي : الإيقاع الموسيقي للكلمات والعبارات والصور والظلال التي يشعها اللفظ وتشعها العبارات زائدة على المعنى الذهني , ثم طريقة تناول الموضوع والسير فيه ...."[9] ويقول أيضا : "... لا يجوز أن نكتفي بدلالتها المعنوية فهذه عنصر واحد من عناصر دلالتها , فلا بدّ أن نضم إليها عنصري الإيقاع والظلال , فهي بمجموعها تدل على القيمة الكاملة لهذا العمل ...."

فعناصر الدلالة الأدبية عند سيد قطب خمسة :

1) دلالات الألفاظ مفردة

2) الدلالات المعنوية الناشئة من اجتماع الألفاظ وترتيبها في نسق معيّن (النظم)

3) الإيقاع الموسيقي الناشئ من مجموعة إيقاعات الألفاظ متناغما بعضها مع بعض

4) الصور والظلال التي تشعها الألفاظ متناسقة في العبارة

5) طريقة تناول الموضوع والسير فيه , أو الأسلوب

وإذا كان الأديب يتحكم في اللفظ والمعنى في نصه فكيف له أن يتحكم في الإيقاع والصور والظلال ؟؟

يجيبنا سيد بقوله أنّ ذلك لا يتحقق إلاّ عند الانفعال " وكلما تحقق لهذا الانفعال توهج وحرارة وإشراق في التعبير يغمر إحساسه ...ويجعله في شبه نشوة... كلما كان صادقا في التعبير به عما يحسه , ناجحا في بيانه للآخرين , مؤثرا فيهم تأثيرا ساحرا عجيبا..."[10]

"...أيْ أنّ اختيار الألفاظ وتنسيقها لا يتم بإرادة كاملة الصحو , وإنّما تقفز الألفاظ والعبارات وتتناسق وتتناغم , وكأنّها تصنع ذلك بدون اختيار , وقد يُتم الشاعر عمله في هذه الحالة الفذة ثم يراجعه , فيعجب لنفسه , كيف واتته القدرة على صوغ هذه العبارات , وقد يقف أمام بعضها معجبا متعجبا , كما لو كان يشهدها أول مرة ..."[11]

ثمّ لنعرض الآن لتأثير هذا العنصر على منهجيته في الظلال ...... قد يكون هذا هو أهمّ عامل دفعه إلى اختيار هذا العنوان فلقد كان هدفه منذ بداية اتصاله بالقرآن الكريم لما رجع إليه كأديب يبحث في جماله لا غير واكتشف نظرية الإيقاع والظلال أن يتناول القرآن كلّه بالدراسة والبحث وفق هذه النظرية ... ولم يتأتى له ذلك إلاّ في ظلال القرآن

يقول الدكتور الخالدي : "إنه يريد أن يقول لنا ـــ من خلال عنوانه ـــ إنّ آيات القرآن الكريم لها ظلال وارفة وراء معانيها , وهذه الظلال فيها كثير من إيحاءات القرآن ودلالاته وتوجيهاته , التي لا بدّ من الالتفات إليها وملاحظتها , وهذه الإحاءات والتوجيهات والدلالات لا تدرك إلاّ من خلال ملاحظة ظلال الآيات , ولا يلاحظها إلاّ باحث متذوق , يلحظها بحسّه البصير , وخياله العامل , وتعرضه لتلك الظلال , وحياته بها ومعها وفيها ...."[12]

وهل كان سيد قطب يجد من نفسه ذلك الشعور الذي تقدم ذكره والذي يسمح للكاتب والأديب بأن يترك لكلامه ظلالا وصورا وإيقاعا

يقول عليه رحمة الله : "... وقد عانيت بنفسي حالات من هذا النوع كثيرة , وأنا أكتب {التصوير الفني في القرآن } وأنا أكتب {في ظلال القرآن} في بعض الأحيان..."[13]

ولهذا السبب نراه يكثر من الوقفات لتسجيل ظلال الألفاظ في الآيات القرآنية وبيان دلالاتها وإيحاءاتها لأنّ ذلك كان من أهمّ أهداف هذه الظلال..... والله أعلم بالحق والصواب .



[1] مقدمة الطبعة الأولى ج1 ص5 نقلا عن مدخل إلى ظلال القرآن ص 83

[2] طبعة دار الشروق ص 9

[3] المرجع نفسه ص 11

[4] المرجع السابق من ص 11 إلى ص 19

[5] المرجع نفسه ص18

[6] طبعة دار الشروق 4\ 2038

[7] المرجع نفسه 1\ 278

[8] النقد الأدبي لسيد قطب ص 19 نقلا عن مدخل إلى الظلال ص 84

[9] المرجع السابق ص 32

[10] المرجع نفسه ص 36

[11] المرجع نفسه

[12] مدخل إلى ظلال القرآن الكريم ص 90

[13] النقد الأدبي ص 36 و 37

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق