الثلاثاء، 20 جويلية 2010

سيّد قطب ونظرية التصوير الفني (2)

الفصل الأوّل : مسيرة رجل فكرٍ, دعوةٍ وأدب

المبحث الأوّل : ترجمة مختصرة لسيد قطب عليه رحمة الله

هو سيد بن الحاج إبراهيم قطب ولد في أحضان عائلة موسرة نسبيا في قرية " موشة" أو "موشا" الواقعة في محافظة أسيوط في صعيد مصر يوم الثلاثاء 09 أكتوبر سنة 1906 الموافق لـ : يوم 20 أو 21 شعبان 1324هـ. كان والده رجلا متدينا مرموقا بين سكان القرية وعضوا في لجنة الحزب الوطني الذي كان يرأسه مصطفى كامل ... يهتم بزراعة أراضيه ويعطف على الفقراء ويبر بهم وقد تسببت وجاهته ومسؤولية الحفاظ على زعامة عائلته وسمعتها في إفلاسه إذْ اضطر إلى بيع قسما كبيرا من ممتلكاته بما في ذلك بيته وبيت عائلته الذي ولد فيه سيد عليه رحمة الله .. أما أمه فكانت سيدة متدينة متعلقة تعلقا شديدا بالقرآن الكريم تنتسب إلى عائلة معروفة بالوجاهة والشرف ومعروفة بالاشتغال بالعلم والسياسة , عنيت بتربيته فحنت عليه وزرعت فيه عزّة النفس والطموح وحب المعرفة والعلم..
له ثلاث أخوات وشقيق واحد أوّلهمّ نفيسة تكبر سيد بثلاث سنوات ثم أمينة الأديبة الإسلامية المعروفة وزوجة كمال السنانيري المجاهد الداعية المشهور جاءت بعد سيد , ثم محمد المفكر الإسلامي الغني عن التعريف له من الكتب المتداولة بين الناس الشيء الكثير ثم حميدة وهي أصغرهن . فقد والده وهو لم يزل يتابع دراسته بالقاهرة فأحس بثقل المسؤولية التي ورثها إزاء أمه واخوته وكرهت نفسه الإقامة في مسقط رأسه فاقنع أمه بالانتقال إلى القاهرة وكان لموت أمه المفاجئ عام 1940 اثر كبير في نفسه إلى درجة انه أحس نفسه وحيدا في الحياة غريبا عنها ..
كان سيد رجلا اسمر اللون مجعّد الشعر لا هو بالبدين ولا هو بالنحيل . أميل إلى القصر منه إلى الطول , رقيق الإحساس لطيف المعشر متواضعا شجاعا حاضر البديهة سليط اللسان في نقده شغوفا إلى حب المعرفة ميالا إلى مساعدة الآخرين.
ولم يكن سيد يتمتع بصحة جيدة منذ صغره وقد ساعد على تدهور حالته الصحية عوامل القلق التي داهمته بعد وفاة والديه وفي المدة الأخيرة من حياته كان يعاني من أمراض شتى في معدته . اضطرته إلى أن يحمل معه أينما ذهب الأدوية اللازمة لعلاجه.
مرّ في حياته الفكرية بمراحل عدة وفترات مختلفة حتى قيل أنه أوشك على الإلحاد لولا أن تداركته رحمة الله وسخّر له العقاد ليتجه به اتجاها محافظا أدبيا نقديا ثم تاقت نفسه بعد ذلك للروحانيات التي افتقدها في مدرسة العقاد والتي كان يجدها في صباه فاهتم بالروحانيات والشعر الوجداني والغنائي كما اهتم بالقرآن الكريم أوّل ما اهتم به لأجل البحث عن روحانياته التي كان يجدها فيه في صغره وصباه .... ثم أراد بعد ذلك أن يدرس القرآن دراسة أدبية لأنّ مطالعته فيه أوصلته إلى نظرية جديدة هي نظرية التصوير الفني عرضها على الباحثين والمختصين ليفيضوا البحث فيها من خلال مقال نشر أواخر العقد الرابع من القرن الماضي ثم توسع في الحديث عن نظريته الأدبية تلك من خلال كتابيه التصوير الفني في القرآن ومشاهد يوم القيامة في القرآن ... ثم وهو يتناول القرآن الكريم تناولا أدبيا وقف على أحكامه وعلى عدالة شرعه وحكمته وبدأ اتجاهه الإسلامي يتبلور شيئا فشيئا من خلال مقالاته التي كانت تنشر دوريا في المجلات والصحف وفي هذه المرحلة ألّف كتابه العدالة الاجتماعية في الإسلام وهو أول كتاب تناول فيه سيد مسائل لها علاقة بالقرآن الكريم بعيدا عن المجال الأدبي سافر سيد لأمريكا للوقوف على مناهج التربية والتعليم والاستفادة منها في إطار بعثة وزارية ـ قيل كان الغرض منها إبعاده عن مصر ومحاولة إغوائه بعد أن بدأ اتجاهه الإسلامي يظهر ويتبلور ـ وقد اكتشف سيد في أمريكا زعيمة العالم المتحضر فقر البشرية للقيم ووقوفها على حافة الهاوية بسبب بعدها عن منهج الله سبحانه وتعالى كما وقف على تفاصيل جاهلية هذا العصر كما كان يسميها في الظلال وقد نقل فصولا كثيرة في مواصع عدة من الظلال يصف فيها هذه الجاهلية ويكشف عيوبها وسوءاتها ... وفي أمريكا ازداد حسّه الديني وأصبح مقتنعا تمام الاقتناع أن لا نجاة للإنسانية إلاّ بالعودة إلى الله وبالعودة إلى تعاليمه المسطرة في كتابه المعجز الخالد ؛ القرآن الكريم , بعد عودته إلى مصر كثّف نشاطاته العلمية والمعرفية من خلال كتبه التي أصبحت لا تتناول سوى موضوع العودة إلى الإسلام ومبادئ الإسلام وأحكامه وعدله وفضح خصومه وأعدائه لا غير كما نشط كثيرا كعادته في المجال الصحفي وفي إبراز نفس المبادئ وذات الأفكار وابتدأ يبعد شيئا فشيئا عن المجال النقدي والأدبي إلى أن تخلى عنه تماما , وعن نشاطه الحركي والسياسي في هذه المرحلة فقد تميّز ابتداء بتعامله مع الضباط الأحرار وكان بمثابة المنظر لهم أو بتعبير أدق الأب الروحي هذا ما كانوا يدعونه ويقرون به ربما عن قناعة واعتقاد وربما كان ذلك من باب التمويه وكسب عواطف الجماهير وتأييدها لا غير ... لكنه بعد انتصار الثورة وبعد ظهور اتجاهها التغريبي وبعدها عن مبادئ الإسلام ابتعد عنهم ورفض مناصبهم وتكريماتهم . وفي هذه المرحلة بالذات انضم إلى جماعة الإخوان المسلمون بعد إرهاصات سابقة وخطوات متقدمة بدأت في أمريكا لِمَا رآه من احتفال وفرح النصارى بمقتل حسن البنا ولما رآه من خوفهم وتوجسهم من هذه الجماعة ولما رآه بعد ذلك في أفرادها من الإخلاص والإقبال على الله والالتزام بشرائعه وأحكامه ... نشط سيد داخل جماعة الإخوان أيّما نشاط فكان مسؤولا عن إعلامها و رئيسا لمجلتها الناطقة بلسانها وعضوا في مكتب إرشادها وكان رمزا لأعضائها منظرا مرشدا مرجعا مثلا حتى كانت الجماهير تحسبه زعيم المنظمة ورئيسها دون سواه كما أنّ الحكومة كانت تخشاه أكثر من غيره وتجعل له من الحسابات وتدخر له من المكر والكيد ما لا تجعله وتدّخره لغيره ...

وابتلي عليه رحمة الله بالسجن كما ابتلي إخوانه وأصحابه من الإخوان فسجن بداية سنة 1954 ش ثم أطلق سراحه ولكن سرعان ما أعيد سجنه أواخر ذات السنة وبالتحديد في أكتوبر 1954 ش بعد حادثة ومسرحية المنشية والتي اتهم الإخوان فيها بمحاولة اغتيال الرئيس بمدينة الإسكندرية حكم عليه بالسجن مدة خمسة عشر سنة ولكن أطلق سراحه قبل ذلك بعد شفاعة وتدخل الرئيس العراقي عبد السلام عارف ... خارج السجن لم يهن سيد ولم يحزن ولم يتراجع عن اختياراته ومبادئه بل راح ينشط ويجمع الشباب داخل وخارج السجن ويعيد لتنظيم الإخوان روحه وحياته فتزعم التنظيم الجديد وأعاده للوجود ولكنه سرعان ما أعيد للسجن مرة أخرى بتهمة محاولة قلب النظام والتآمر على أمن الدولة ليحكم عليه بالإعدام هذه المرة ثم عجلوا تنفيذ الحكم مخافة الاحتجاجات والتدخلات والشفاعات خاصة وأنّ الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين كان يريد أن يعمل المستحيل من أجل إيقاف تنفيذ حكم الإعدام على الأقل و مثله الملك فيصل ملك السعودية وغيرهم من الملوك والحكام والمفكرين والعلماء ومن كبار الصحفيين والساسة والدعاة ...

وقتل عليه رحمة الله فجر يوم الاثنين 29 أوت 1966 ش الموافق لسنة 1386 هـ بعد حوالي أسبوع من صدور الحكم ضده وبعد مقتله بسنة واحدة حدثت نكبة 1967 ش بفلسطين وقال حينها العلامة المغربي علال الفاسي كلمته المشهورة : "ما كان الله لينصر حربا يقودها قاتل سيد قطب" كما ذكره الإمام الزركلي في ترجمة سيد عليه رحمة الله الواسعة

هذه ترجمة وجيزة لسيّد قطب قصدنا عدم التوسع في تتبع تفصيلاتها لكي يتجه تركيزنا أكثر في فصل ترجمته إلى جانب الحديث عن انتاجه الفكري والأدبي وعن ميزة وصفة في غاية الأهمية وهي تطوّر فكره وتغيّره بمرور الوقت والزمن وعن الجانب الأدبي في حياته رحمه الله وقد خصّصنا لكل هذه المسائل مباحث خاصة نسأل الله التوفيق

المبحث الثاني : مكتبة سيد قطب

أولا : المقالات

أكثر إنتاج سيد وأدبه في فنّ المقال فقد أمضى ثلاثين سنة في الكتابة الصحفية (1924 ـ 1954) وهي متنوعة طالت جميع نواحي الحياة منها الأدبي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والفكري والترفيهي والإسلامي والتاريخي ....

بعض هذه المقالات جمعها في كتب مثل "كتب وشخصيات" "الأطياف الأربعة" بالاشتراك مع أخيه محمد وأختيه أمينة وحميدة "دراسات إسلامية" فالأول خصّه لبعض مقالاته النقدية والثاني لبعض خواطره والثالث للمقال الإسلامي

وممّن حاول تعداد مقالاته في شكل ببلوغرافي منهجي موثّق الدكتور عبد الله الخباص والباحث المصري عبد الباقي محمد حسين

الأول في دراسة بعنوان "سيد قطب الأديب الناقد " قدمهه لنيل شهادة الماجستير في الأدب من كلية الأدب بالجامعة الأردنية عام 1982 عدد المقالات التي وقف عليها وجدولها في كتابه هذا (314) ثلاثمائة وأربعة عشر وهو يعترف أنّه لم يستطع الوقوف على كلّ ما كتبه ونشره سيد عليه رحمة الله

الثاني في رسالة بعنوان "سيد قطب حياته وأدبه" قدمها لنيل شهادة الماجستير من كلية دار العلوم جامعة القاهرة عام 1982

وبلغ عدد مقالات سيد التي صنّفها الأستاذ عبد الباقي وفهرسها حسب تاريخ صدورها أربعمائة وخمسا وخمسين قصيدة ومقالة , وهو بدوره يعترف أنّه لم يستطيع استقصاء جميع ما أنتجه ونشره سيد بل هذا ما استطاع الوقوف عليه لا غير ...

ثانيا : الكتب المطبوعة

تأخر سيد في تأليف ونشر الكتب بالمقارنة مع فنّ المقال الذي بدأه وهو لا يزال فتى يافعا ... وهو يقول عن نفسه معللا هذا التأخر :"لقد جاء دوري في نشر الكتب متأخرا جدا لأنني آثرتُ ألاّ أطلع المئذنة من غير سلّم وأن أتريّث في نشر كتبٍ مسجّلة حتى أحِسّ شيئا من النضج الحقيقي يسمحُ لي أن أظهر في أسواق الناشرين ...."[1]

بدأ سيد التأليف عام 1945 وما نشره قبل ذلك التاريخ مثل "الشاطئ المجهول" و "مهمة الشاعر في الحياة" و "نقد كتاب مستقبل الثقافة في مصر" لم تكن كتبا مؤلفة وإنّما هي مجموعة قصائد شعرية أو محاضرة نالت رضا السامعين فنشرت في شكل كتاب أو مقالة نالت رضا القراء فصنع بها مثل ذلك

وإليك هاهنا قائمة بأسماء كتبه المطبوعة بحسب تاريخ صدورها:

1. مهمة الشاعر في الحياة 1933

2. ديوان الشاطئ المجهول 1 \ 1 \ 1935

3. نقد كتاب مستقبل الثقافة في مصر [2] 1939

4. التصوير الفني في القرآن 1945

5. الأطياف الأربعة 1945

6. طفل من القرية 1946

7. المدينة المسحورة , 1946 قصة خيالية أسطورية استوحاها من قصص ألف ليلة وليلة

8. كتب وشخصيات 1946

9. أشواك 1947 قصة حبّ حقيقية عاشها سيد يقول في إهدائها إلى خطيبته :"إلى التي خاضتْ معي في الأشواك فدميتْ ودميتُ وشقيتْ وشقيتُ ... ثم سارتْ في طريق , وسرتُ في طريق: جريحين بعد المعركة . لا نفسها إلى قرار ولا نفسي إلى استقرار."

10. مشاهد القيامة في القرآن 1947

11. روضة الطفل 1947 هو مجموعة قصص للأطفال أصدرها بالاشتراك مع أمينة السعيد و يوسف مراد أصدروا منها حلقتين : "أرنبو والكنز" و "كتكت المدهش"

12. القصص الديني 1947 بالاشتراك مع عبد الحميد جودة السحار وهي ثماني عشرة قصة من قصص الأنبياء

13. الجديد في اللغة العربية

14. الجديد في المحفوظات 1947 أو 1948 كتابان منهجيان ألفهما مع مجموعة من الأساتذة لطلبة مدارس وزارة المعارف وقد ظلّ مبرمجين في التعليم حتى بعد محنة سيد الأولى

15. النقد الأدبي : أصوله ومناهجه 1948 وهو آخر كتاب نقدي يؤلفه وأحسنها أهدى سيد هذا الكتاب إلى روح الإمام عبد القاهر الجرجاني يقول عليه رحمة الله: "روح عبد القاهر , أول ناقد عربي , أقام النقد الأدبي على أسسٍ علمية نظرية . لم يطمس بذلك روحه الأدبية الفنية ...." وفي هذا الكتاب تكلم عن نظريته النقدية الجديدة نظرية الصور والظلال

16. العدالة الاجتماعية في الإسلام 1949 وهو أوّل كتاب في الفكر الإسلامي

17. معركة الإسلام والرأسمالية 1950 إذا كان كتاب العدالة الاجتماعية ركز سيد فيه على الرد على الشيوعيين فإنّ هذا الكتاب خصّه للردّ على الرأسماليين لأنّه بعد عودته من أمريكا وجد ذاءها قد استفحل كما استفحل ذاء الشيوعية قبل سفرها إليها

18. السلام العالمي والإسلام 1951 موضوع الكتاب كلّه يدور حول مسألة السلام العالمي هل للإسلام رأي فيه ؟ هل له نظرة خاصة ؟ موافقة أو مخالفة لنظرة باقي العقائد والأمم ؟ وها له حلولا عملية يقدمها للبشرية ؟

19. في ظلال القرآن 1951 كمقالات 1952 كأجزاء مطبوعة 1960 ظهور الجزء الأول من الطبعة المنقحة

20. دراسات إسلامية 1953 قدم للكتاب في طبعته الأولى الأستاذ محب الدين الخطيب وأطلق على سيد لقب "لسان الدين" وأطلق على أدبه لقب "أدب القوة"

21. هذا الدين 1960 كتبه سيد لتعليل محنة الإخوان وللتخفيف عن إخوانه الأسرى ببيان طبيعة الدين وطبيعة طريق العاملين به وله ....

22. المستقبل لهذا الدين 1960 بيّن فيه أنّ العاقبة للمسلمين والنصر والتمكين لهذا الدين .....

23. خصائص التصور الإسلامي 1962 وهو الكتاب الذي خصّه سيد للحديث عن العقيدة الإسلامية لمن أراد أن يتحدث عن عقيدته فليجعله أصلا وغيره من الكتب تابعة له إذا كان يريد أن يكون منهجيا موضوعيه والله أعلم

24. الإسلام ومشكلات الحضارة 1962 يقصد بمشكلات الحضارة ما أنتجه الغرب حين بعد عن الله وعن دين الله ثم يقدم حلول الإسلام لهده المشكلات

25. معالم في الطريق 1964 آخر كتاب أصدره في حياته وهو خلاصة ما استقر عليه منهجه الدعوي وهو الكتاب الذي اعتمده حكام مصر في إدانته والحكم عليه

26. مقومات التصور الإسلامي 1986 عن دار الشروق وتتمّة لكتاب خصائص التصور الإسلامي وهو كتابه العقائدي الثاني والوحيد الذي طبع بعد وفاته اعتنى بطبعه أخوه محمد قطب ومن عجائب هذا الرجل عليه رحمة الله أنّه في أوراق الادّعاء والتي قدمت له ليقرأها قبل تنفذ حكم الإعدام كتب آخر فصول هذا الكتاب لأنه لم يجد ما يكتب عليه فهو دليل على علوّ همّته وعلى جديته وقوة عزمه كما أنّه دليل على استهانته وتصغيره لهذا الحكم الجائر و على استعلاءه وعزّة نفسه رحمه الله

المبحث الثالث : مراحل سيد قطب الفكرية

يكاد يجمع الدارسون لحياة سيد قطب أنّها فكريا لم تكن على وتيرة ونحو واحد بل لقد تغيرت واختلفت من مرحلة لأخرى حتى أنّك لتكاد تظنّ الحديث عن شخصيات مختلفة ومتعددة لا شخصية واحدة لشساعة وعظم التباين الفكري والعقدي والمنهجي بين مختلف هذه الشخصيات

وإنّ أهمية هذا المبحث تكمن في الوقوف على المرحلة التي قدّم فيها سيّد نظرية التصوير ثم ّ لننظر هل هذا الإنتاج قد تراجع عنه في مراحل أخرى متقدمة أم أثبته وأبقى عليه ... ولكي نتعرّف بشكل دقيق على شخصيته وظروفه الزمانية والمكانية يوم خرج على الناس بنظرية التصوير الفني كما تكمن أهميته الجسيمة وفائدته العظيمة حين نتعرض لنقد هذه النظرية أو غيرها من إنتاج سيّد رحمه الله فلا بدّ حينها من مراعاة هذا التطوّر وهذا التغير ...

وقد اختلف الباحثون والمتخصصون في تحديد هذه المراحل بين من يجعلها ثلاثة وبين من يجعلها أربعة ومنهم من يجعلها خمسة وبعضهم يزيد على ذلك

أما سيد نفسه فهي عنده خمسة كما صرح بذلك للمفكر والداعية الإسلامي أبي الحسن علي الحسني الندوي لما زار مصر سنة 1951 ش

ذكر أنه مرَّ بخمس مراحل هي :

المرحلة الأولى : نشأته على تقاليد الإسلام في الريف وفي بيته

الثانية : انتقاله إلى القاهرة , حيث انقطعت كلُّ صلةٍ بينه وبين نشأته وتبخَّرتْ ثقافته الدينية الإسلامية.

الثالثة : مروره بمرحلة الارتياب في الحقائق الدينية إلى أقصى الحدود

الرابعة: إقباله على القرآن , والنظر فيه لدواعٍ أدبية .

الخامسة : تأثيرُ القرآن فيه , حيثُ تدرَّج به إلى الإيمان والالتزام[3]

ويقسم تلميذه يوسف العظم وهو من الملازمين له والعارفين بخبايا حياته المرحلة الإسلامية من فكر سيد قطب إلى ثلاث مراحل

الإسلاميات الفنيّة

الإسلاميات العامة

الإسلاميات الحركية الهادفة[4]

ولكن الناظر بتمعن في المرحلة الأخيرة من حياته وهي التي وسمها يوسف العظم واصطلح عليها بقوله: الإسلاميات الحركية الهادفة يلاحظ أنّها بدورها تنقسم إلى قسمين بارزين ومرحلتين مختلفتين هي مرحلة الانضمام للإخوان ملتزما بفكرهم ومنهجهم لا يناقشه ولا يحيد عنه ومرحلة متقدمة هي التي سطّر أصولها ومبادئها في الطبعة المنقحة من الظلال والتي كان من أسبابها ما لاحظه من نقص في تنظيم ودعوة الإخوان...

ثمّ إنّه عليه رحمة الله قبل الانتقال من المرحلة الثالثة إلى المرحلة الرابعة التي ذكرها أي بين مرحلة التيه والريب ومرحلة العودة إلى كتاب الله يمكننا إدراج مرحلة أخرى هي مرحلة انتقالية بين المرحلتين تبدو ظاهرة في مقالاته الوطنية وفي مذاهبه المحافظة بعض الشيء بالمقارنة إلى مواقف أخرى قال بها في مرحلة التيه وهي المرحلة الانتقالية هي التي التزم فيها بفكر العقاد وانتسب إلى مدرسته وانتهج نهجه ...

وعلى هذا يمكننا القول بأنّ سيد مرّ عبر حياته بثمان مراحل جمعا بين ما ذكره عن نفسه وما قاله تلميذه إذا أضفنا إلى ذالك المرحلة الانتقالية والمرحلة الأخيرة من حياته ... وسنحاول التطرق لجميع هذه المراحل مرحلة مرحلة مبينين مجالها الزمني طبيعة أفكاره وسلوكه وماهية ونوعية إنتاجه الفكري فيها

1. المرحلة الأولى : مرحلة النشأة والطفولة

المجال الزمني : من الولادة إلى غاية 1919 م

تميّزت هذه المرحلة بنشأته في بيئة محافظة متدينة ربّته على حبّ الفضيلة وتجنب الرذيلة بل على مواجهة الباطل والمنكر والعطف على المستضعفين , حفظ خلالها القرآن الكريم .

حباه الله تعالى بموجهين (أساتذة , مدير المدرسة , الأخوال...) إصلاحيين يميلون للتجديد يهتمّون بأوضاع أمتهم ويتأثرون لمآسي شعبهم

ممّا يسجل له في هذه المرحلة كذلك تعلقه الشديد بالطبيعة وحبه لجمالها الخلاب وهدوئها الجلاب

لعلّ أبلغ وصف لهذه المرحلة ما كتبه سيد نفسه في كتابه "طفل من القرية"

2. المرحلة الثانية :مرحلة التيه السلوكي أو التيه الفكري المتواضع والبسيط

المجال الزمني: 1925م إلى حوالي بداية العقد الرابع من ذالك القرن (الثلاثينيات)

وهي المرحلة التي قضاها سيد في تجهيزية دار العلوم وبداياته في دار العلوم نفسها وقد تكون أقصر من ذلك أو أطول إذا ما اعتبرناها جزءا من المرحلة التي تليها...ثم إننا لم نجعل منها مرحلة خاصة إلاّ لأنّ سيد رحمه الله نصّ بنفسه على التفريق بين المرحلتين فوصف الأولى بقوله : " حيث انقطعت كلُّ صلةٍ بينه وبين نشأته وتبخَّرتْ ثقافته الدينية الإسلامية." ولم يذكر مظاهر هذا الانقطاع ولا مقتضيات وأعراض تبخر الثقافة الإسلامية التي تلقاها في المرحلة الأولى مرحلة التربية والنشأة , بينما وصف الثانية بقوله:" مرحلة الارتياب في الحقائق الدينية إلى أقصى الحدود" فكلا المرحلتين فيها بعد عن الإسلام وانقطاع عن مبادئه لكن لمّا اختصت الثانية بالجانب العقائدي قلنا لعل التيه في المرحلة الأولى تيه في السلوك فقط أو لعله تيه في العقيدة والسلوك ولكنه لم يبلغ ما بلغه في المرحلة التي تليه من الشكّ والريب والتيه والله أعلم[5]

لعل أهمّ ما أثر فيه خلال هذه المرحلة جوّ المدينة خاصة إذا كانت القاهرة, أكبر المدن العربية ومحيط الشباب الذي وجده مخالفا كلّ المخالفة لما كان يعرفه في قريته المحافظة الصغيرة ...

اشتغل خلال هذه المرحلة بالكتابة في مختلف المجلات والصحف لكن يبقى الإنتاج الشعري والقصصي أهم ما يميز هذه المرحلة والتي تليها

وسيأتي ذكر مجموع ما أنتجه خلال هذه المرحلة ....

3. المرحلة الثالثة : مرحلة التيه العقائدي أو التيه العقائدي الكبير

المجال الزمني: خلال بدايات تواجده في دار العلوم و تنتهي بعودته للقرآن الكريم يدرسه وينهل منه وهي في حقيقة الأمر استمرار للمرحلة التي قبلها ولولا تفريق سيد بينهما لجعلناهما مرحلة واحدة لكن الرجل أعرف بنفسه من غيره .

لقد ذكرنا في المرحلة التي قبل هذه السبب الأول من حيث الزمن في تيهان سيد وانقطاع صلته عن النشأة الدينية , وتبخّر الثقافة الإسلامية ـ كما قال ـ ألا وهو انغماسه في جوّ المدينة الغاوي جوّ الحرية واللهوِ أما السبب الرئيس في هذا التيه العقائدي وهذه الحدّة في الشكّ والريب في أصول العقيدة والدين هو الفكر الغربي كما يقول المتخصص الدكتور الخالدي : "إنّ السبب المباشر لضياعه , هو إقباله على الثقافة المادية الغربية , وأخذه كلَّ ما فيها من مبادئ وأفكار وتصورات " و في وصف هذه الأفكار يقول الدارس توفيق بركات :"تتميز بالسير نحو الفردية , وتنمية الاستقلال الفكري والنفسي , وإيجاد قيم خاصة , والخروج على القيم السائدة , ولذلك فإن الذي ينهل منها بغير ميزان ثابت , يتيه في مجاهلها , ويضيع في تيار ضلالها "[6]

ولم يتخلص من هذه التيه والضلال إلاّ بعد عودته إلى كتاب الله ينهل منه كما كان من قبل , ولم يندم سيد على هذه المرحلة ـ من حيث استفادته منها ـ [7] يقول عليه رحمة الله : "إنّ الذي يكتبُ هدا الكلام إنسان عاش يقرأ أربعين سنة كاملة. كان عملُه الأولُ فيها هو القراءةَ والاطلاعَ في معظم حقول المعرفة الإنسانية .. ما هو مِن تخصصه , وما هو من هوايته .. ثم عاد إلى مصادر عقيدتِه وتصوّره , فإذا هو يجد كلَّ ما قرأه ضئيلا ضئيلا , إلى جانب ذلك الرصيد الضخم ـ وما كان يمكن أن يكون إلاّ كذلك ـ وما هو بنادم على ما قضى فيه أربعين سنة من عمره . فإنما عَرَفَ الجاهلية على حقيقتها , وعلى انحرافها, وعلى ضآلتها , وعلى قزامتها , وعلى جعجعتها وانتفاشها , وعلى غرورها وادعائها كذلك !!! وعَلِمَ عِلْمَ اليقين أنه لا يمكن أنْ يجمع المسلم بين هذيْن المصدرين في التلقي!!! "[8]

يقول الدكتور الخالدي واصفا تيه سيد وضياعه : "لقد مرّ ـ في ضياعه ـ بمرحلةٍ من التردد والشكّ , والحيرة والقلق , والعذاب والألم , والتساؤل والبحث , والتردد والشكوى !! كان يبحث ويتأمل , وينظر ويفكر , ويسأل الأحياء والأموات والجوامد . كان يريد أن يكشف سرّ الحياة , ويعرف كنهها وغايتها . حاول السير "إلى القمة"3 فغاصت منه "الأقدام في الرمال"3 واعتبر نفسه سائرا مرغما , فرداً في "قافلة الرقيق"3 , عاجزاً عن معرفة "السرّ" [9]!! راح يبكي بحرقة , ويصرخ من الألم , ويلوم نفسه المتحفّزة , وعقله الباحث , على حالته البائسة التي وصل إليها ! وصار يتمنى لو يسعفه الموت , ليخلِّصه من عذاب الحيرة , وعناء البحث والمعرفة ! وظل يبحث ويتأمل ويسألُ , سنوات عديدة , فلم يصل إلى استقرار , ولم يجد مجيبا لأسئلته واستفساراته ! فقد في رحلة ضياعه اطمئنان الضمير , وسعادة النفس , وراحة البال , وسعة الصدر , ويقين القلب !! فقد نفسه وقلبه , ويقينه وحياته وسعادته ! فغدا رجلا بائسا حائرا تائها , حزينا قلقا شاردا , عدَمِيّاً عبثيّاً , يقول بعدمية وعبثية الحياة ! لم يعرف ـ أثناء ضياعه ـ سرّ وجوده , ولا وظيفة الكون من حوله , ولا الحكمة من خلق الكون والإنسان , ولا الهدف من الحياة ! ولم يجد لحياته معنىً عظيما , فقال بتفاهتها بكلِّ ما فيها , ونادى بعبثيتها وعدميتها , واعتبر الفناء والزوال نهايتها , ونهاية كلِّ ما فيها من عقائد وأفكار وقيم , ومشاعر وأعمال !! ولا يستغربن أحد هذا الكلام عن سيد قطب , ولا يتشككنّ في صحة هذه الملامح التي ذكرناها لسيد , أثناء رحلة ضياعه الشاقة , لأننا لم نأت بها من عندنا , بل هي ما صرّح ببعضها في قصائده , وما بدا بعضها من خلال بعض قصائده !...."[10]

له من الانتاج الفكري والأدبي في هذه المرحلة الشيء الكثير وسنقتصر ها هنا على الحديث عن ديوانه الشعري " الشاطئ المجهول "[11] لأنّه يعبر بصدق عن مرحلة الضياع ؛ هذا الديوان الذي أصدره في يناير سنة 1935ش نشره لما كان في غاية التيه والضياع ما بين 1932 و 1935 ش

ممّا قاله فيه :

إلى الشاطئ المجهول , والعالم الذي حننتُ لمرآه , إلى الضفةِ الأخرى

إلى حيثُ لا تدري, إلى حيثُ لا ترى معالمَ للأزمان والكون تُسْتَقْرا

إلى حيث "لاحيثُ" تميزُ حدودَه إلى حيثُ تنسى الناسَ والكونَ والدهرا

وتشعر أنّ الجزءَ والكلَّ واحد وتمزج في الحسِّ البداهةَ والفكرا

فليس هنا أمسٌ وليس هنا غدٌ ولا اليوم فالأزمان كالحقيقة الكبرى

وليس هنا غيرٌ وليس هنا أنا هنا الوحدة الكبرى التي احتجبت سرّا

ولعل في عناوين بعض قصائده ما يدلّ على حجم هذا الضياع مثل : "في الصحراء" و "السر : أو الشاعر في وادي الموتى" و "الإنسان الأخير" و"الغد المجهول" و"النفس الضائعة" و "غريب" و "خراب" و "الشعاع الخابي" و "سخرية الأقدار" و "يوم خريف"

4. المرحلة الرابعة : مرحلة متوسطة بين التيه والعودة إلى كتاب الله

إذ لا يمكن الانتقال من الطرف إلى الطرف الآخر بشكل فجائي سريع بل لا بد من مرحلة توسطت المرحلتين طالت أم قصرت هي مرحلة والله أعلم كان للعقاد أثر بالغ فيها أثر يظهر في وطنية سيد واهتماماته السياسية والتي لعلها أنسته بعض الشيء تساؤلاته وشكوكه العقائدية كما تظهر في بداية انتقاده للفكر الغربي على طريقة شيخه العقاد ويبدو ذلك جليا من خلال مقالاته وأرائه ومواقفه ولكن اتجاهه الديني لم يكن قد برز جليا كما يبدو ذلك من خلال موقفه من الرافعي وانتقاداته له وكذا موقفه من بعض المسائل الأخلاقية كمسألة التعري على الشواطئ والله أعلم ...

5. المرحلة الخامسة : الإسلاميات الفنية والأدبية

المجال الزمني : فبراير 1939 إلى أبريل (نيسان) 1949 م

تبدأ هذه المرحلة بالدراسة التي نشرها في شكل مقال بمجلة "المقتطف" بعنوان "التصوير الفني في القرآن الكريم" نُشرت على حلقتين بَيَّنَ فيه أهمية دراسة القرآن دراسة أدبية فنّية وأنّ مثل هذه الدراسات لم تتم حتى الآن ثم ذكر أنواعَ الصور الفنية وضرب لها أمثلة متنوعة من القرآن الكريم وفي آخر المقال ذكر أنّ الموضوع خصب يصلح للدراسات المستفيضة في الرسائل العلمية الجامعية . ووعد بأنه سيقوم بدراسة مفصلة له إن لم ينهض له أحد ...[12] وبعد مضي ستة أعوام على كتابة هذا المقال ولمّا لم يلق تجاوبا من الباحثين والمختصين أصدر سيد دراسته المستفيضة كما وعد في شكل كتاب بعنوان المقالة ذاتها "التصوير الفني في القرآن" في أبريل 1945م ويعتبر كثير من المختصين والنقاد أن ّ الكتاب يعدّ فاتحة عهد جديد في النقد الفني والأدبي وبيان جماليات النص القرآني بعيدا عن الأدبيات والأساليب القديمة التي كانت لا تتعدى في الغالب الصور البيانية ودلالات الألفاظ لا غير...

وقد اعتبر سيد هذا الكتاب أوّل سلسلة سماها "مكتبة القرآن الجديدة" وعد بإصدارها تباعا يخصصها للدراسات الأدبية الجمالية والفنية للقرآن الكريم وقد ذكر من مجمل فصولها ومباحثها "التصوير الفني في القرآن" و "مشاهد القيامة في القرآن" و "القصة بين التوراة والقرآن" و "أساليب العرض الفني في القرآن" و "النماذج الإنسانية في القرآن" لم يصدر من هذه السلسلة سوى كتابنا هذا و "مشاهد القيامة في القرآن" ثمّ سرعان ما تحول اهتمامه للجانب الفكري في القرآن الكريم

وممّا جاء في مقدمة مشاهد القيامة يبين هدف سيد من العودة للقرآن الكريم ونظرته التي تخلصت تماما من ذلك التيه والشك وبدأت تجد سبيلها نحو الله تعالى نحو الحق نحو الطمأنينة واليقين... :" وفي اعتقادي أنني لم أصنع بهذا الكتاب وبسابقه , ولن أصنع بلواحقه , إلاّ أن أرد القرآن في إحساسنا جديدا كما تلقاه العرب أوّل مرة فسحروا به أجمعين . واستوى في الإقرار بسحره المؤمنون والكفار : هؤلاء يسحرون به فيفرون ! ويقولون : "لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تفلحون" وأولئك يسحرون فيلبون , يملأ نفوسهم الإيمان واليقين . والقرآن: هذا الكتاب المعجز الجميل, هو أنفس ما تحويه المكتبة العربية على الإطلاق , فلا أقلّ من أن يعاد عرضه , وأن ترد إليه جدته , وأن يستنقذ من ركام التفسيرات اللغوية والنحوية والفقهية والتارخية والأسطورية أيضا ! وأن تبرز فيه الناحية الفنية , وتستخلص خصائصه الأدبية , وتنبه المشاعر إلى مكامن الجمال فيه . وذلك هو عملي الأساسي في "مكتبة القرآن" . اهـ [13]

وهذه المرحلة هي التي تعنينا بالدراسة والبحث ففي أوّلها بدايتها شرع سيّد في الحديث عن التصوير الفني وفي وسطها خرج لنا بنظريته عن التصوير الفني في القرآن الكريم كاملة مكتملة ثمّ انتقل إلى تطبيقاتها وتتبّع واستقصاء شواهدها ونماذجها ...

6. المرحلة السادسة الإسلاميات الفكرية

المجال الزمني : 1949 م إلى 1953 م

كان هدف سيد من العودة إلى القرآن الكريم هدفا فنيا أدبيا بحثا ولكنه في خضم البحث عن جماليات النص القرآني وجد ما هو أعظم وأهم إذْ لفت نظره وشده ما فيه من تشريعات ومبادئ وحكم وما حواه من قيم البشرية في أمسّ الحاجة إليها وما حواه من مناهج وأحكام من شأنها إقامة مجتمعات وأمم فعمد إلى تسجيل هذه الملاحظات ثم سرعان ما رأى الاهتمام بها أولى وأهم من الاهتمام بالجانب الجمالي في النص القرآني

ولعل أهم إنتاج ميّز هذه المرحلة إضافة لمقالاته في مختلف المجلات والصحف كتاب "العدالة الاجتماعية في الإسلام" صدر في أبريل 1949 ألّفه قبل إيفاده إلى أمريكا بل لعله كان السبب في بعثته تلك كما يقول غير واحد من المحققين وعلى رأسهم شقيقه محمد قطب

بيّن في هذا الكتاب عدالة الإسلام ووسطيته كما هاجم فيه المنهج الرأسمالي والشيوعي وكان شديدا عنيفا ومتحمسا في حملته على الفكر الاشتراكي الذي أغوى بأمانيه الكاذبة العديد من المثقفين العرب والكثير من جماهير العمال والفلاحين في مصر وقد أحدث الكتاب ضجة كبيرة في مصر بل وفي العالم العربي والإسلامي كلـّه فقابله الشيوعيون بالإنكار واعتبروا سيد عميلا للرأسمالية والإمبريالية كما أنّ الحكومة المصرية صادرته لأنّه كان يصب في مصلحة عدوّها يوم ذاك الإخوان المسلمون بينما استبشرت به الأوساط الإسلامية واعتبروه نصرا لهم بالكتاب أوّلا وبصاحبه ثانيا

7. المرحلة السابعة : الإسلاميات الحركية في صفوف تنظيم الإخوان

المجال الزمني : 1953 إلى نهاية عقد الخمسينات

في هذه المرحلة انضمّ سيد لجماعة الإخوان والتزم ببرنامجها الدعوي وبقانونها التنظيمي وقد اختلف الدارسون اختلافا لا يكاد ينضبط في تحديد تاريخ التحاقه بالتنظيم فمنهم من يجعله سنة 1950 مباشرة بعد عودته من أمريكا ومنهم من قال بل سنة 1951 ومنهم من يجعله بعد نجاح الثورة مباشرة وأقوال أخرى كثيرة لكن الذي يرجحه الدكتور الخالدي هو مطلع عام 1953 ش بعد مفاصلته لجماعة الضباط الأحرار مستندا إلى كلام ينقله عن سيد نفسه حيث يقول عليه رحمة الله: "وفي الوقت نفسه كانت علاقتي بجماعة الإخوان تتوثق , باعتبارها في نظري حقلا صالحا للعمل للإسلام على نطاق واسع , في المنطقة كلّها , بحركةِ إحياءٍ وبعثٍ شاملة . وهي الحركة التي ليس لها في نظري بديل يكافئها , للوقوف في وجه المخطّطات الصهيونية والصليبية والاستعمارية , التي كنتُ قد عرفتُ عنها الكثير ـ وبخاصة في فترة وجودي في أمريكا ـ وكانت نتيجة هذه الظروف مجتمعة , انضمامي بالفعل سنة 1953 إلى جماعة الإخوان المسلمين " اهـ [14]

ننقل هنا كذلك كلاما نفيسا لسيد يتكلم فيه عن مؤسس حركة الإخوان الأستاذ حسن ألبنا :"في بعض الأحيان تبدو المصادفةُ العابرة , كأنها قدرٌ مقدور , وحكمة مدبّرة في كتابٍ مسطور .. حسن "البنا" .. إنها مجرد مصادفة أن يكون هذا لقبه .. ولكن من يقول : إنها مصادفة , والحقيقة الكبرى لهذا الرجل هي البناء , وإحسان البناء , بل عبقريةُ البناء ؟ لقد عرفت العقيدةُ الإسلامية كثيرا من الدعاة .. ولكنّ الداعية غيرُ البناء .. وما كل داعيةٍ يملك أن يكون بناءً , وما كلّ بناء يوهب هذه العبقرية الضخمة في البناء !! هذا البناء الضخم .. الإخوان المسلمون .. إنه مظهرُ هذه العبقرية الضخمة في بناء الجماعات ..إنّ عبقرية البناء تبدو في كل خطوةٍ من خطوات التنظيم.. من الأسرة , إلى الشعبة , إلى المنطقة , إلى المركز الإداري , إلى الهيئة التأسيسية و إلى مكتب الإرشاد .. هذه من ناحية الشكل الخارجي ـ وهو أقلُّ مظاهر هذه العبقرية ـ ولكن البناء الداخلي للجماعة أدقُّ وأهم , وأكثر دلالةً على عبقرية البناء والتنظيم .. البناء الروحي ..." [15]

وعن الإخوان يقول سيد : "حيا الله الإخوان المسلمين .. لقد تلفتتْ مصر حينَ جدّ الجدّ , وتحرجَ الأمر , ولم يَعُد الجهادُ هتافاً وتصفيقاً ’ بل عملا وتضحية , ولم يعد الكفاح دعايةً وتهريجاً , بل فداءً واستشهاداً . لقد تلفتت مصر , فلم تجد إلاّ الإخوان , حاضرين للعمل , مهيئين للبذل , مستعدين للفداء , مدربين للكفاح , معتزمين الاستشهاد ... لقد تركوا غيرهم يخطبون ويكتبون , أما هم فذهبوا فعلا إلى ساحات الجهاد. ولقد تركوا غيرهم يجتمعون ويَنْفَضّون, أما هم فقد حملوا سلاحهم ومضوا صامتين ..."[16]

من أهم الأعمال التي قام بها في صفوف الإخوان:

Ø إشرافه على جريدة الأسبوعية "الإخوان المسلمين" والتي كانت تصدر كلّ يوم خميس عن المركز العام للإخوان المسلمين أصدر سيد العدد الأول منها بتاريخ 20 ماي 1954 ش الموافق لـ 17 رمضان 1373 هـ صدر منها اثني عشر عددا

Ø حديث الثلاثاء الذي كان يلقيه في المركز العام وكان يحضره آلاف من الناس سواء منهم الإخوان والمتعاطفون معهم والمهتمون بالدعوة والفكر الإسلامي ...

Ø إيفاده إلى دمشق في 2 مارس 1953 ليحضر مؤتمر "الدراسات الاجتماعية" فيها , حيث ألقى فيها بحثا بعنوان "التربية الخلقية كوسيلة لتحقيق التكامل الاجتماعي" وخلال المؤتمر وبعده كان له لقاءات عدة مع مختلف العلماء والدعاة ....

Ø مشاركته في المؤتمر الإسلامي بالقدس الشريف والذي نظمه الإخوان المسلمون في شهر ديسمبر 1953 والتقى فيه بقادة الفكر والعمل الإسلامي وأعجبوا به أيّما إعجاب ....................

Ø من أشهر كتبه التي أصدرها في هذه المرحلة : "دراسات إسلامية" "في ظلال القرآن " الطبعة الأولى "الإسلام ومشكلة الحضارة" حتى وإن تأخر نشره ...

8. المرحلة الثامنة : الإسلاميات الحركية بمنظار جديد

المجال الزمني: نهاية الخمسينات إلى مقتله عليه رحمة الله

في هذه المرحلة بدأت نظرة سيد تتغيّر وفي هذه المرحلة قعّدَ لمنهجه الحركي الذي استقاه من القرآن الكريم بفضل طول ملازمته له ونظره فيه , وهذه المرحلة هي التي أثارت ولا تزال جدلا كبيرا عن طبيعة فكر سيد قطب وهل هو امتداد لفكر الإخوان ؟ أم أنّه فكر جديد تسببت انتكاسةُ الإخوان إلى في كشفه ؟ وهل هو فكر متّزن قائم على التربية والدعوة ملتبسَين بالتميّز والمفاصلة والاستعلاء ...لا غير ؟ أم هو منهج متطرّف قائم على التّزَيُّلِ والمواجهة بين الجاهلية والإسلام ؟ فلا حديث بين الكفر والإيمان إلاّ حديث السيف ولغة القتل ولهجة الدم !!!

والحقّ أنّ سيدا في هذه المرحلة قد أحدث انقلابا في فكره أوّلا وفي فكر الدعوة الإسلامية كلّها ثانيا والناظر في كتبه التي ألّفها في هذه المرحلة بهذا الفكر والمنهج الجديد يظهر له بغير تكلّفٍ ولا عناء الفرق الشاسع والبون الواسع بين المنهجين حتى ليكاد القارئ ـ باعتبار المضمون والأفكار ـ يحسبهم لكاتبين اثنين لا لكاتب واحد

ولهذا السبب بدأ كبار مسؤولي الإخوان ومنظريهم يختلقون الأسباب لأجل التنصل من فكر سيد الذي صار في أيامنا هذه محل اتهام محلي إقليمي وعالمي وإنّ أهمّ ما يحتجون به هو قصر مدته في التنظيم فهو لا يتجاوز الثلاث سنوات (من مارس 1953 إلى نوفمبر 1954) وقصر المدة دليل على أنّه استقى منهجه ـ العنيف ـ من غير جماعة الإخوان وقصر المدة دليل على عدم صحة تزعمه للتنظيم السري بعد خروجه من السجن ولا تزعمه الروحي ولا الفكري ولا الدعوي وممّن كان يصرح بذلك قديما الأستاذ مصطفى مشهور نائب المرشد العام حامد أبو النصر [17] أما اليوم فالجميع يصرح بذلك سواء كان من الإخوان أو من غيرهم وعلى رأسهم العلامة الشيخ يوسف القرضاوي

وإذا أردنا الوقوف على حقيقة منهجه نقول إنّه منهج دعوي متكامل منهج قائم على العمل على مستويات ثلاث مستوى النفس البشرية يخوض بداخلها الفرد المسلم معركته ضد الجاهلية لينشئ الشخصية الإسلامية السوية المتزنة القائمة بحدود الله المجاهدة في سبيل الله ثم المستوى الثاني مستوى الواقع البشري ليخوض أفراد الجماعة المسلمة معركة مع الجاهلية معركة سلمية دعوية أوّلا ولا ريب أنها ستصير قتالية جهادية ثانيا معركة يراد من خلالها إيجاد المجتمع الإسلامي الذي يتمثل فيه منهج الله عزّ وجل أما المستوى الثالث فهو مستوى تابع للمستويين الأوّل والثاني هو المستوى التنظيمي الذي به تحسُن إدارة المعركة في المستوى الأول والثاني

وقد صرح عليه رحمة الله في غيرما موضع من ظلاله أنّ القرآن إنما نزل ليتحقق ويتجسد في واقع الأشخاص والأمم

وإنّ طريقة العمل وسبيل النصر في المستوى الأول هو التربية على العقيدة الإسلامية العقيدة العملية الصحيحة

وإنّ طريقة العمل وسبيل النصر في المستوى الثاني هو الدعوة إلى العقيدة الإسلامية العقيدة العملية الصحيحة

ثمّ إنّه كان يرى أنْ لا بدّ من القوة والجهاد لحماية الجماعة المسلمة[18] حتى تتمكن من العمل التربوي والدعوي وأنّ هذه القوة لا تتدخل إلاّ لحماية العمل الإسلامي ولضمان استمرارية العمل الإسلامي وهنا مكمن الخطأ والله أعلم كما صرح به المنصفين من دارسي فكر سيد قطب ومنهجه وعلى رأسهم شقيقه محمد وتوفيق بركات وصلاح الخالدي وغيرهم ...

أما من حيث إنتاجه الفكري فلعل أهم ما تميزت به هذه المرحلة الطبعة المنقحة لتفسيره "في ظلال القرآن" و "معالم في الطريق" "هذا الدين" "المستقبل لهذا الدين" "مقومات التصور الإسلامي" و "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته"

المبحث الرابع : سيّد قطب في عالم النقد والأدب

الأدب هو الأخذ من كلّ شيء بطرف ؛ وقد أخذ سيد عليه رحمة الله من كلّ شيء بطرف من خلال تجاربه الواسعة ومعارفه وثقافته المتنوعة ثم ترجم كلّ ذلك في نتاج أدبي بديع في مقالاته الرائقة وكتاباته الشيقة

خابر سيد الفلاحة والزراعة ومعالجة المواشي والتعامل مع الفلاح ورجل الريف , كما خابر السياسة حيث شارك في مختلف أحزاب المعارضة بل وعاين رجال السلطة وشارك في صنع القرار , لا تقوم ثورة في مصر إلاّ وكان من رجالها وأبرز المشاركين فيها , جال وصال في مجالات الصحافة محررا مراسلا رئيسا ومديرا , علّم ودرّس ردحا من الزمن , سافر إلى مختلف الدول العربية كما سافر إلى الغرب إلى أمريكا روما الجديدة زعيمة العالم الحرّ كما يسمونها , أحبّ مرتين ؛ الحبّ الأوّل الذي يبقى مرسوما في الذاكرة مهما طال الزمن ومرت السنون , وحباًّ عميقا صادقا حالت ظروف الواقع والحياة دون ترجمته إلى زواج وعقد نكاح فبقي أثره مرسوما خالدا لكن في القلب هذه المرة , بل لقد ذهبت بسيد التجارب والخوض في كلّ شيء بشجاعة وجسارة أن كان في صغره ويا للعجب !! يكشف عن البخت والطالع بفضل كتاب كان عنده اشتراه من الكُتُبي العمّ صالح ويحكي عن نفسه في "طفل من القرية" أنّ هذه التجربة مكّنته من دخول البيوت والاطّلاع على أسرار العائلات وخباياهم فإنّ النسوة لصغر سنّه كنّ يطلعنه على ما لا يطلعن غيره , ثم تجربة السجن والابتلاء والتعذيب ..... وغيرها من التجارب في مختلف مجالات الحياة , لم تتوقف قطّ من الصغر إلى أن لقي الله شهيدا نحسبه كذالك .... كلّ هذه التجارب المتعددة والمتنوعة جعلت منه الأديب البارز الكبير والشاعر الفحل العظيم ورائد النقد وزعيمه ......

ولنحاول الآن السير مع سيد وتتبع مجريات حياته من هذه الحيثية (سيّد الأديب ) لعلنا نجد فيها أصولَ منهجه ومنطلقات فكره وكلّ ما أثّر فيه وفي تفسيره في شكل نقاط ولمحات وجيزة ...

ü توجّه سيد نحو الأدب بدأ مبكرا في مراحل تعليمه الأولى فقد كان لأستاذه الأول ومدير مدرسته دوره البارز في وجهته تلك من خلال الكتب التي كان يعيرها له ... ثم خاله الذي سكن عنده في القاهرة والذي عرّفه بالعقاد وأدخله صالونات الأدب ونواديه ومن ثَمَّ راح سيد يتصل بالكتاب والشعراء وينهل من معينهم أوّلا ثم سرعان ما استقام عوده وبدأ ينتج ما يضاهي إنتاجهم لا بل قد يفوقه ويتفوق عليه ثم اهتم بالنقد الأدبي واشتغل به حتى سبق أقرانه وتقدم عليهم فيه

ü من أوائل الأدباء الذين اتصل بهم سيد عباس محمود العقاد وكان أكثر الأدباء تأثرا به فقد قرأ موسوعته المكتبية جميعها وكان يحضر ندوته الأسبوعية والتي كان يعقدها صبيحة كلّ جمعة بدأ حضورها مطلع العشرينات واستمر في حضورها أكثر من ربع قرن من الزمن وعلاقة سيد بالعقاد تحتاج إلى بحث مطوّل خاص فقد بدأها بالتأثر به إلى درجة اعتبره سيد شعراء الأولين والآخرين وزعيم الأدب في القديم والحديث أخذ بمذهبه في الشعر والأدب والنقد والفكر والسياسة وفي كلّ مناحي الحياة ... واستمر على هذه الحالة ما يقارب ربع قرن من الزمن لكن سيد كعادته يقوّم نفسه يقوّم منهجه يقوّم شيوخه كما يقوّم المؤسسات المنظم إليها والأفكار التي يتبناها في كلّ زمن وحين وهذا ما جعله ينفصل عن العقاد بعد ذلك وعن فكره ونهجه ليتوجه الوجهة الإسلامية ..

ü الاهتمام والاشتغال بالنقد الأدبي مخلصا في عمله ومهمته متقنا لها أيّما إتقان لا يحابي أحدا فيما يعتقد ولا يقبل مساومةً ولا إغراءً من شأنه أن يحيد به عن قول الحقّ وبيان ما يريد بيانه يقول عليه رحمة الله مبينا طريقته في النقد كما جاء ذلك في مجلة الأسبوع سنة 1937 أثناء معركته النقدية مع جماعة أبولو :"أريد أن أقصَّ على القراء أحاديث دارت بيني وبين بعض الناس , ومحاولاتٍ بُذلت معي من بعض الأدباء , حتى أتأثر في نقدي للكتب والدواوين , بهذه المؤثرات , ويأخذني الإغراء بهذه المغريات . ولقد سمعتُ بهذه الأحاديث , وأنصتُ لتلك المغريات , وابتسمتُ لهذه وتلك على السواء , وسخرتُ بأصحاب هذه وتلك . ومضيتُ لنقدي لهذه الكتب والدواوين في صفحة الأهرام الأدبية على ما رسمتُ لنفسي من خطة , وعلى ما جمعتُ لنفسي من ملاحظات , في أثناء دراستي لتلك الكتب والدواوين."1 وعن خطّته يقول :"وكان من أوّل هذه المبادئ , أن أنفيَ الأشخاص من دائرة تفكيري , وأن ألتفتَ إلى ما بين يديّ من كتاب . كما كان منها ألاّ أكتب كلمةً واحدة , قبل أن أدرس ما بين يديّ , دراسة كاملة مستوفاة . إذ كنتُ أعلمُ ماذا يصنعُ نقّاد الكتب , من قراءة العنوان والمقدمة والفهرست , ثم إصدار الأحكام "[19]

ü من جملة الأدباء الدين اتصل بهم سيد وكانت له معهم جولات أدبية ونقدية مواجهات أو موافقات : طه حسين , أحمد حسن الزيات , عبد القادر حمزة , أحمد زكي أبو شادي , توفيق الحكيم , إبراهيم عبد القادر المازني , يحيى حقي , محمود تيمور , محمد مندور , عبد الحميد جودة السحار , أحمد أمين , عبد المنعم خلاف , عباس خضر , علي الطنطاوي , أنزر المعداوي ونجيب محفوظ وغيرهم فمن شأن هذا الكم الهائل من الاتصالات أن يجعل لسيد رصيدا لا بأس به في معرفة نفسية الأدباء ونماذج من مفكري مصر وصناع قراراتها وموجهي أفكارها ...

ü سيد قطب والأستاذ مصطفى صادق الرافعي : يعتبر جلّ الإسلامين الأستاذ الرافعي "أديب الإسلام المدافع عن القرآن والإسلام واللغة والأدب والأخلاق والفضائل ويعتبرون أدبه إسلاميا قرآنيا رفيعا فريدا فصيحا ويعتبرون كلّ من ينقد أدبه مخالفا للدين محاربا للحقّ متبعا للباطل!" يقول سيد عليه رحمة الله: " ...لي رأيٌ في المرحوم مصطفى صادق الرافعي , لعل فيه شيئا من القسوة , وكنت على ثقة أنّ هذا الرأي لم يتدخل في تكوينه عندي أيُّ عاملٍ خارجي , وإنّما كان نتيجةً لعدم التجاوب بين آثاره الأدبية وبيني ......الرافعي أديبٌ مُعْجِب , في أدبه طَلاوة وقوة ولكنه بعدُ أدبُ الذهن لا أدب الطبع . فيه اللمحات ُ الذهنية الخاطفة واللفتات العقلية القوية التي تلوح للكثيرين أدبا مُغْربا عميقا لذيذا , ولكن الذي ينقُصها أنه ليس وراءها ذخيرةٌ نفسية ولا طبيعةٌ حية .... وكثيرا ما يختلط أدبُ الذهن وأدب الطبع , إذا كان مع ذكاءٍ وقوة , وما من شكٍ أنّ الرافعي كان ذكيا قويّ الذهن لكنه كان مغلقا من ناحية الطبع والأريحية " [20] ولقد انتُقِد سيد على موقفه هذا واعتبره الكثيرون موقفا معاديا للإسلام اتخذه مجاراة وتقليدا لشيخه العقاد لا غير وزعم بعضهم أنّ سيد تراجع عن موقفه هذا بعد عودته للفكر الإسلامي القويم . والحقّ أنّ انتقاد سيد للرافعي كما جاء مبينا أعلاه كان انتقادا أدبيا فنيا لا علاقة له بالمعتقد ولهذا بقي على رأيه فيه حتى أواخر حياته فقد كتب الأستاذ أحمد الشرباصي في بداية الخمسينات مقالا اعتبر فيه أنّ أسلوب الرافعي مستمدٌّ من أسلوب القرآن التصويري , وأنّ الرافعي يعبِّر بالصورة الحسية عن المعاني الذهنية . فردّ سيد على هذا الكلام بقوله :"لا أذكر أنّ هذا كان مأخذي على أسلوب الرافعي , بل أذكر أنه كان العكس , فقد آخذتُ عليه : الألاعيب الذهنية في التعبير , والجُمَلَ التي ينبعُ ذيلُها من رأسها والعكس والتي يحسبها القارئ ماشيةً "تَتَقَصَّعُ" وتضع يديْها على خَصْرها على الطَّرس , وليس شيء من هذا كله بسبيل , من ذلك الأسلوب القرآني "[21]

ü ولقد كانت له مواقف مماثلة أو أشدّ مع طه حسين وتوفيق الحكيم وغيرهم يصرح بما يعتقده ويراه صوابا حتى وإن خالفه الجميع

حتى وإن أوكلت له التُّهم ورمي بمختلف النقائص في سبيل ذلك

ü المعارك النقدية والأدبية التي خاضها عليه رحمة الله: وقبل الحديث عنها وعن بعض نماذجها لنسُق بعض أسباب خوضها كما ذكرها الدكتور الخالدي :

1. الدفاع عن أرائه النقدية والأدبية

2. تنشيط حركة الأدب والنقد في الأوساط الأدبية وإزالة حركة الركود ...

3. حبُّ الظهور والرغبة في الشهرة والحرص على إثبات وجوده في الساحة الأدبية والنقدية ولفتُ الأنظار إليه والدعوة إلى ما يؤمن به ...

4. تقليد أستاذه الأوّل العقاد الذي خاض كثيرا من المعارك والمساجلات الأدبية

5. تبني أراء وأفكار أستاذه العقاد ومحاربة مخالفيه والثناء على العقاد ومدحه والإشادة به ومهاجمة معارضيه وخصومه...[22]

ولقد كان أسلوبه في هذه المعارك قويا حادّا عنيفا يستعمل عبارات فيها شيء من الشدّة والقسوة حتى لتكاد تقترب من الشتائم والسباب ...

من أشهر هذه المعارك:

1. معركة المنبرالحر 1934

2. معركة مع الرافعيين 1938

3. معركته مع الدكتور محمد مندور حول الأدب المهموس 1934

4. معركته مع عبد المنعم خلاف حول التصوير الفني في القرآن 1944

5. معركته مع دريني خشبة 1943

6. معركته مع صلاح ذهني 1944

7. معركته مع إسماعيل مظهر 1946

8. معركته مع شيوخ الأدب 1947

ü وفي وسط الأربعينيات أو أواخرها تحول سيد من القائلين بأنّ الأدب ينبغي أن يقتصر هدفه على ذات الأدب والفن لا غير إلى القول بأنّ الأدب ينبغي أن يخدم الحياة ويخدم الإنسان ويخدم العقيدة

ولقد كان لمسيرة سيّد قطب الأدبية آثارٌ بارزة وواضحة على فكره لعل أبرز ما تتّضح فيه ما يلي :

1. التغير والتطور في المواقف والأفكار

2. روحه النقدية وحكمه على كلّ ما تطاله يديه من المقالات والكتب

3. النقد الذاتي

4. القوة والشدة والحدة والحماسة في النقد

5. الصدق فيما يعتقده ولم يكن يرضخ أبدا للمساومات والإغراء

6. إخلاصه للمناهج والأفكار التي كان يتبناها ودخوله فيها بكلّ ما فيه

7. اتجاهه نحو التغيير والإصلاح

8. التجديد في عالم النقد والأدب

خوضه معارك حقيقية , معارك نقدية وأدبية ميدانها الورق وسلاحها القلم وكذلك سوف يفعل في تفسيره الحركي سيخوض مع القرآن معارك في مجالات عدة ونواحي شتى في النفس في المجتمع في الأسرة في التنظيم في الفكر ....


[1] مجلة الثقافة , السنة الثالثة عشرة ’ عدد 663 تاريخ 10\12\1951 صفحة 8 نقلا من "سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد" ص522

[2] ينتقد فيه كتاب طه حسين الذي دعا فيه إلى إلحاق مصر بالعالم الغربي والأخذ بثقافتها حلوها ومرّها

[3] من مذكرات سائح في الشرق العربي للندوي ص189 وانظر سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد ص 268

[4] رائد الفكر الإسلامي المعاصر ليوسف العظم ص 149 ـ 151

[5] يجب التنبيه هاهنا إلى أنّ الدكتور صلاح الخالدي يأبى هذا التقسيم وينزّه سيد عن التيه السلوكي دون أن يقدم أيّ دليل أو نقل أو نصٍ يفيد ذلك , لا بل ما ذكره يقتضي خلاف ما ذهب إليه فهو يقرّ أنّ التيه العقائدي يقتضي السلوكي خاصة في مرحلة الشباب وفي ظروف كتلك التي كان يعيشها سيد عليه رحمة الله الواسعة . وكذلك محمد قطب الشقيق الأصغر لسيد رحمه الله وهو أعلم بأخيه من غيره يرى نفس الشيء ولكنه لا يستدل بالواقع الذي عاشه وعاينه من أخيه حتى يكون كلامه حجة على غيره ولكن دليله الوحيد كما ذكره في محفل مناقشة رسالة الماجيستير التي قدمها الدكتور الخالدي بعنوان "سيد قطب والتصوير الفني" لعام 1400هـ هو : ذلك التألم والتمزق والشكوى التي عاشها وترجمها في قصائده وقصصه ... انظر : سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد ص 218

[6] توفيق بركات , سيد قطب ؛ ص 12

[7] أما من حيث الأعمال التي قدمها فقد كانت حسرته وندمه عليها كبير ومرير كما ذكر تلميذه يوسف العظم ...

[8] سيد قطب , معالم في الطريق ؛ ص143 ـ 144

[9] هذه عناوين لقصائد كتبها في هذه المرحلة وهي تترجم بصدق حالة الشك والريب والضياع

[10] الخالدي , سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد ؛ ص 220 ـ 221

[11] سنخصص مبحثا لبيان مؤلفات سيد قطب كلّها والحديث عنها بالتفصيل إن شاء الله

[12] التصوير الفني في القرآن الكريم , مجلة المقتطف المجلد 94 الجزء 1 فبراير 1939 ش صفحات 206 ـ 211 والجزء 2 مارس 1939 صفحات 313 ـ 318 نقلا من مدخل إلى ظلال القرآن للخالدي ص 36

[13] سيد قطب , مشاهد القيامة في القرآن ؛ ص 9

[14] لماذا أعدموني , سيد قطب ؛ ص 11 ـ 12 نقلا من سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد ص 324

[15] دراسات إسلامية ؛ 225 ـ 226 باختصار نقلا من المصدر السابق ص 330

[16] دراسات إسلامية ص 243 نقلا من ذات المرجع ص 331

[17] انظر مجلة المجتمع , السنة الثامنة , عدد 821 . تاريخ 16 يونيو 1981 , صفحة 21 نقلا من سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد ص 338

[18] هذه النقطة بالذات لا وجود لها في كتبه المتقدمة منها والمتأخرة و لا في مقالاته على تنوعها وتعددها وإنّما أخذها من احتسبها عليه من الكتاب المنسوب إليه (لما ذا أعدموني) وهو عبارة عن المحضر القضائي والأمني لسيّد قطب في قضية إعدامه ولا يخفى على ذي لبّ أنّ نسبة هذه الأقوال لسيّد قطب والجزم بذلك فيه من المجازفة الشيء الكثير ....

[19] الأسبوع , المجلد الثالث , عدد 35 , تاريخ 25 جويلية 1934 صفحة 21 نقلا من المصدر السابق

[20] الرسالة , السنة السادسة , المجلد الأول عدد 251 , تاريخ 25 \ 4 \ 1938 صفحات 292 ـ 293 نقلا من المصدر السابق ص 123 ـ 124

[21] المرجع السابق العدد 927 تاريخ 19\5\1951 صفحة 429 نقلا من المصدر السابق كذلك ص 123

[22] سيد من الميلاد إلى الاستشهاد ص 165 ـ 166

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق