الفصل الرابع : نظرية التصوير الفني في ميزان النقد[1]
إنّ أحكام النقاد والدارسين في شأن سيّد قطب ــ حياته تفسيره أدبه وفكره ــ متباينة ومتضاربة بين من يزعم أنّه مجدّد القرن ورائد منهجية ومدرسة جديدة في الفكر والدعوة والأدب والنقد والتفسير وبين من يعتبره مفرّطا ومتسيّبا حشر نفسه فيما لا يحسنه وتكلـّف ما لا يستطيعه أو أنـّه متشدّد ومتنطع سبّب الويلات للأمة بما نظـّره وسطـّره في كتبه من الأحكام الخاطئة والآراء الجريئة والجائرة ....
وقد تعددت الدراسات التي تناولت سيّد قطب سواء كمفكر أو مفسّر أو أديب والكثير منها حاد عن الجادة في نقده إذْ اتّسمت جلّ هذه الدراسات بالتطرّف في النقد سواء من جهة الاستحسان أو الاستهجان إمّا لأنّها من غير مختصين أو أنّها تمّت بدوافع ذاتية ذوقية وبخلفيات حزبية ومذهبية
ويمكنا تصنيف الانتقادات التي وجهت لنظرية التصوير الفني في أربع خانات :
الأولى : انتقادات من حيث استعمال اصطلاحات لا تليق بالقرآن الكريم
الثانية : مزالق عقدية وقع فيها سيّد أثناء دراسته وبحثه لهذه النظرية
الثالثة : مؤاخذات فنية أدبية خالصة
الرابعة : تساؤلات وإشكالات متفرقة حول بعض مقاصد سيّد قطب ومنهجه في عرض النظرية
وسنتناول جلّ هذه الانتقادات بالبيان والبسط محاولين معرفة الحقّ فيها من الباطل , ولكن قبل ذلك لا بدّ لنا من وقفة :
معالم منهجية بين يديّ نقد سيّد قطب ونظريته في التصوير :
لكي يكون النقد الموجه لسيّد قطب رحمه الله منهجي وموضوعي ينبغي والله أعلم أن نلتزم بمعالم منهجية من شأنها أن تصرفنا عن الأحكام الذوقية والذاتية ومن شأنها أن توقفنا بحقٍّ على مكامن الاستحسان والاستهجان ولعلّ أبرز هذه المعالم هي :
1. مراعاة المراحل الفكرية في حياة سيّد قطب : ففكر سيّد قطب قد تطوّر وتغير بمرور الزمن وتغيّره إلى درجة يمكننا القول أنّنا حين نتعامل مع إنتاجه الفكري في أوّل حياته وآخرها وكأننا نتعامل مع شخصيتين مختلفتين تمام المخالفة , لا بل متناقضتين متخاصمتين حتى . وقد تراجع سيّد عن الكثير من أرائه بل جلـّها وكان رحمه الله يتمنى لو تطال يده جميع ما كتبه ليعيد صياغته أو إلغائه بالكليّة [2] وقد بسطنا القول في هذه المراحل وبينّاه في الفصل الأوّل من هذه البحوث ... فينبغي والحال كذلك أن تراعى هذه المراحل عند تناول سيّد قطب بالنقد والتجريح
2. ينبغي على الناقد أن يجعل بين يديه وأمام عينيه وهو يشتغل بنقد المناهج والأفكار أنّ العلم يتطوّر يوم بعد يوم وأنّ الظروف تختلف وتتغير من زمنٍ لآخر ومن مكان لآخر... فما هو معلوم اليوم لم يكن كذلك بالأمس القريب ... وما هو مسلـّم هنا ليس هو بالضرورة مسلـّم هنالك ... ولتقريب الفهم نضرب مثالين اثنين :
أ- انتماء بعض العلماء والمصلحين والمفكرين قديما إلى الماسونية وهي اليوم معلومة معروفة بكونها منظمة يهودية خبيثة همّها الأوّل وهدفها الأكبر محاربة الأديان عموما ودين الإسلام على وجه الخصوص وقد أفتى أهل العلم في مختلف البقاع الإسلامية بكفر وزندقة من ينتمي إليها , ولكنها إلى وقت قريب جدّاً لم تكن كذلك في حسّ علماء المسلمين وفهمهم بل كانت منظمة عالمية إنسانية يقصد بها مطلق التحاور والتعارف بين مختلف المجتمعات كما يقصد بها الإصلاح والتعاون والتحرر لا غير فهل يحقّ لنا بعد هذا أن يقال ــ وقد قيل ــ في علماء كبار شابوا وعمّروا في خدمة الإسلام أنّهم كفار لانتمائهم لهذه المنظمة الخبيثة طبعا لا وألف لا !!!
ب- المثال الثاني هي العقيدة السلفية المنتشرة اليوم في كلّ بقاع الأرض هل كانت كذلك منذ زمن قريب , طبعا من حيث المبدأ الكلّ كان يدعي انتمائه لها وولاؤه إليها ولكن هل كانت جليّة واضحة بهذا القدر حتى في فهم وحسّ من يدعيها , طبعا لا إلاّ في بعض بلدان المسلمين المخصوصة ... والعديد ممّن يحمل اليوم لواء الدعوة السلفية كان بالأمس القريب أشعري وهو لا يشعر (والأمثلة على ذلك كثيرة ...)
فينبغي والحال كذلك أن يراعى ظرف سيّد قطب وواقعه الذي عاش فيه عند تناوله بالنقد والتجريح
3. مراعاة التخصصّ في النقد فلا ينبغي أن يقدم من لا علاقة له بالأدب على انتقاد أديب متخصص في مجاله كما لا ينبغي لمن لا يعرف من العقيدة إلاّ عمومياتها أن يقدم على انتقاد من أفنى عمره في دراسة العقيدة وهكذا يقال في التفسير والفقه والحديث والعلوم الصرفة فلكلّ علم رجاله ولكلّ فنٍّ رواده...فينبغي والحال كذلك أن لا ينتقد نظرية سيّد من الحيثية الفنية الأدبية الصرفة إلاّ متخصص[3]
4. الأخطاء التي يقع فيها المؤلفون والكتاب ليست على مستوى واحد بل تختلف وتتفاوت باعتبارات عدّة ومن حيثيات شتّى ويمكن ملاحظة هذا الاختلاف جليّـًا فيما يلي :
أ- التفريق بين الأخطاء المنهجية والأخطاء غير المنهجية فالأضرار المترتبة عن الأولى غير الثانية فالخطأ المنهجي من شأنه أن يتولد عنه أخطاء أخرى ... فمن ردّ حديثا لم يستوعبه وقصُر فهمه عن إدراك حقيقته وكنهه ليس كم يردّ كلّ حديثٍ ظاهره مخالفة القرآن أو آحادا أو مخالفة أصول بشرية مُحْدثة...
ب- التفريق بين الأخطاء التي يترتبّ عنها أخطار عظيمة كتضليل الأمّة وبين بعض الأخطاء التي لا يتعدى خطرها صاحبها الذي وقع فيها
وعلى هذا الأساس ينبغي التركيز في نقدنا لسيّد قطب وغيره من المؤلفين والكتاب على أخطائهم المنهجية وعلى ما يعظم خطره لا على كلّ واردة وشاردة ...
5. التفريق بين الخطأ الذي يجب بيانه وكشفه حتّى نحذّر المسلمين من الوقوع فيه وبين المخطئ الذي قد يكون معذورا وقد لا يكون كذلك ولا ينبغي التطاول على الشخص باتهامات تهدّ الجبال هدّاً لمجرد الوقوف على أخطائهم خاصة إذا كان من الذين التحقوا بربّهم ولا سبيل لبيان الخطأ لهم وإقامة الحجة عليهم ...
6. حسن الظن بسيّد قطب والتماس الأعذار له ولمجموع المسلمين كما هو منهج أهل السنة والجماعة دون أن يحول ذلك بيننا وبين بيان الخطأ...
7. التفريق في النقد بين منهج سيّد قطب الدعوي ومدرسته الحركية وبين منهجه في النقد القائم على نظرية التصوير الفني والثاني هو الذي يعنينا في هذه البحوث
أوّلا : انتقادات وجّهت لسيّد قطب من جهة الاصطلاحات المستعملة
أكثر الانتقادات التي وجّهت لسيّد قطب عليه رحمة الله في نظرية التصوير الفني كانت منصبّة على الاصطلاحات التي استعملها والتي يرى منتقدوه أنّها منافية لروح القرآن تقدح في عظمته وتذهب هيبته ورفعته ...أهمّ هذه الاصطلاحات ما يلي :
المشهد , الصورة , الرسم , اللوحة , القصة , الحوار , النظارة , المسرح, الأداة التي تصور , الحادث المروي , الجرس , الموسيقى , السينما , الإيقاع , النغمات , الريشة المبدعة , عدسة التصوير ....[4]
ولنقدم لهذا المبحث بمطالب لها متعلق بجميع هذه الاصطلاحات لا بآحادها
أ- مِن أينَ أوتيَ سيّد رحمه الله :
ب- كيفية التعامل مع الاصطلاحات الجديدة في الشريعة
ت- أمثلة لاصطلاحات اختلف فيها المتقدمين
ث-
وسنحاول في هذا المبحث التعرّض لأهمّ هذه الاصطلاحات ولعل الحديث عن بعضها ينسحب على غيرها فلا داع لإعادة الكلام في كلّ مرة ...
1. الموسيقى :
أنكر على سيّد استعماله لاصطلاح الموسيقى من جهتين اثنين
الأولى : إنّ هذا اللفظ يطلق على محظور شرعي هو الطرب والغناء وما يصاحبه من استعمال المعازف وآلات اللهو والصخب
الثاني : إنّ مثل هذه الألفاظ من شأنها أن تقدح في هيبة القرآن وعظمته
هذا من جهة الخطأ الذي ينبغي تفاديه أو تصحيحه إن وقع أما من جهة صاحبه فينبغي أن يلتمس له الأعذار
وعذر سيّّد أنّه لم يقصد بالموسيقى معناها المحرّم وإنّما قصد جرس الحروف ونغمها بدليل الأمثلة التي ذكرها ... فلم نقرأ له حديثا عن آلات اللهو والمعازف وإنّما حديثه عن الهمس والقلقلة والشدّة والقوّة والرفع والخفض وهكذا ...
ثمّ إنّ المتقدمين تكلموا عن أصوات الحروف ودورها في الدلالة ابتداء من رائد البلاغة والبيان الجاحظ ومؤسسها عبد القاهر الجرجاني ولعل أشهر وأكثر من تكلم في هذا الموضوع من القدماء ابن الأثير في المثل السائر ومن المعاصرين مصطفى صادق الرافعي وللدكتور أحمد ياسوف رسالة ماجستير في الموصوع بعنوان "جماليات المفردة القرآنية"
وكلّهم استعملوا اصطلاحات لا تختلف كثيرا من حيث مدلولها مع اصطلاح الموسيقى ولعل أشهر وأكثر ما استعملوه لفظ (النغم) وقد كان هذا اللفظ مقترنا بالمعازف والمقامات والغناء مثله مثل الموسيقى اليوم ... ولم يلقى هذا الاستعمال من الإنكار والمعارضة ما لقيه اصطلاح الموسيقى وذلك لعلم النّاس أنّ أصحابه ومستعمليه لم يقصدوا به هذا المعنى وإنّما قصدوا به جرس الحروف وأصواتها أو ربّما لأنّ دلالات هذا اللفظ من حيث اللغة أوسع من دلالته على خصوص المعازف بخلاف الموسيقى الذي يبدو أنّه وضع في الأصل للدلالة على المعازف والغناء المحظور
2. الفنّ
إذا كان انتقاد سيّد لاستعماله اصطلاح الموسيقى وقع بعد وفاته فلم تتاح له الفرصة للإجابة عن الانتقادات التي وُجهت له , فإنّ انتقاده لاستعماله اصطلاح (الفنّ) وقع في حياته ومباشرة بعد صدور الطبعة الأولى من كتابه (التصوير الفني في القرآن) ولهذا ردّ على منتقديه وبيّن موقفه واعتراضه في الطبعة الثالثة من (التصوير الفني ) وفي (مشاهد القيامة في القرآن)
يقول عليه رحمة الله[5] :
ويقول أيضًا [6]:
فحاصل الانتقاد قائم على كون اصطلاح الفنّ محمول على مطلق الخيال والاختراع والتلفيق وهذا مخالف للقرآن الكريم ولا يتماشى وأغراضه ومواضيعه الحقيقية والواقعية
وخلاصة جوابه كما هو واضح من كلامه يمكننا حصرها في عنصرين اثنين :
ü بيان قصده وأنّه لم يردْ ما ذهبوا إليه وزعموه
ü بيان أنّ حمل هذا الاصطلاح على معنى الاختراع والتلفيق هو تأثر بالفنّ الغربي وأنّ ذلك لا ينبغي أن ينسحب على القرآن الكريم
3. السحر
يقول الشيخ ربيع المدخلي يُنكر على سيّد وصفه للقرآن الكريم أو لبيانه بالسحر[7]: " لقد وصف الكفار المشركين القرآن الكريم والرسول العظيم صلى الله عليه وسلم بأوصاف شنيعة منها السحر والكهانة والكذب والافتراء، وغير ذلك من الأوصاف القبيحة التي يشوهون بها القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم لينفر الناس منهما وقد رد الله عليهم ردودا قويّة تدحض هذه الافتراءات والتشويهات ذباً عن نصوص كتابه وعن رسوله الصادق الأمين المرسل حقاً من رب العالمين.
وإذا كان هذا هو الواقع فلا يجوز بحال من الأحوال أن يوصف الرسول بأنه ساحر، كما لا يجوز أن يوصف بأنه كاهن أو كاذب.
وكذلك القرآن لا يجوز أن يوصف بأنه سحر كما لا يجوز أن يوصف بأنه كهانة أو كذب أو أساطير تلك الأوصاف الخبيثة التي افتراها الكاذبون على كتاب الله العظيم ورسوله الصادق الأمين...[ثمّ يقول]... لقد أطلق سيد قطب هذا اللفظ المذموم الحقير عند كل الأمم مرات كثيرة أذكر بعضاً منها:
1- قال في ص (8):”ولكن سحرها لا يزال وجاذبيتها لا تزال” يعني الصور التي يتخيلها في نصوص القرآن.
2- و في ص(11) قال معنوناً:” سحر القرآن”.
3،4- سحر القرآن العرب.
وقال عن قصة عمر رضي الله عنه والوليد بن المغيرة” وكلتاهما تكشفان عن هذا السحر”.
5- وفي ص (11): " عن مدى هذا السحر القاهر الذي استوى في الإقرار به المؤمنون والكافرون”
6- وفي ص (13)، قال:” ولكن هذه العوامل لا تنفي أنه كان لسحر القرآن".
...[ثمّ يختم بقوله:] ... وإذا كان هذا هو واقع الكفار المكذبين وهذه هي مقاصدهم الدنيئة فلا يجوز أن يقال في القرآن إنه سحر كما لا يجوز أن يقال إنه شعر وكما لا يجوز أن يقال إنه كهانة كما لا يجوز أن يقال إن الرسول ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون أو كذاب، فإطلاق السحر على القرآن والرسول في التحريم والمنع كتحريم إطلاق الكذب والكهانة والشعر والجنون وسائر الأوصاف التي أطلقها الكفار على الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم تكذيباً واستهزاءً وسخرية وتشويهاً وتنفيراً.
فمن يقول إن الكفار إنما كانوا يطلقون السحر على القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم لغير هذه المقاصد التي نص عليها القرآن ولغير البواعث التي نص عليها القرآن فإنما هو مجازف متهور مصادم للقرآن الكريم المنزل من العليم الخبير بأقوال هؤلاء الكافرين المكذبين. قل أأنتم أعلم أم الله ؟. " انتهى كلام الشيخ ربيع
هذا نموذج من كلام المنتقدين فما عذر سيّد في استعماله لهذا اللفظ ياترى :
أوّلا : إنّ لفظة السحر [8] في اللغة بفتح الحاء وإسكانها ـ يجوز الوجهان ـ تطلق حقيقة على ثلاثة معانٍ وأوجهٍ هي :
ü العضو والمقصود به طرف الحلقوم
ü الوقت وهو متنفس الصبح ما بين إقبال الصباح وإدبار الليل
ü الخديعة وإخراج الباطل في صورة الحقّ
ولكن هذا المعنى ليس متعيّنا فقد تُصرف عن هذه الأصول إلى معانٍ أخرى استعملتها العرب منها الشيء الحسن أو الدقيق الصنعة والتركيب أو الذي عظم شأنه وخفي تأثيره أو انبهمت حقيقته وتركيبه ...
ثانيًا : إنّ السحر الذي تحدث عنه سيّد ها هنا غير السحر الذي ادّعاه الكفار ورموا به القرآن الكريم واتهموا به الأنبياء والمرسلين , ولعل في نقل كلام سيّد وتفسيره وشرحه للسحر الذي جاء على لسان الكفار أكبر دليل على ذلك
يقول رحمه الله عند وقوفه على الآية 153 من سورة الشعراء {قالوا إنّما أنت من المسحرين} "إنّما أنت ممّن سُحِرت عقولهم فهم يهرفون بما لا يعرفون ! كأنّما الدعوة إلى الله لا يدعوها إلاّ مجنون"[9]اهـ
ثمّ انظر كلاما له قيّمًا يعرّفُ به السحر الذي ادّعاه الكفار ونسبوه للقرآن الكريم : "هو تخييل لا حقيقة وخداع للبصر والحواس قد يصل إلى خداع الإحساس فينشأ فيه آثاراً محسوسة كآثار الحقيقة , كما يشاهد من رؤية الإنسان لأشياء لا وجود لها و أو في صورة غير صورتها , وما يشاهد من تأثير المسحور أحيانا تأثرات عصبية وجسدية كما لو كان الأثر الواقع عليه حقيقة ..."اهـ[10]
فهل هذا هو السحر الذي عناه سيّد عند حديثه عن بيان القرآن وبلاغته ؟
إنّما قصد سيّد بسحر القرآن الجمال الذاهب بالأفئدة والعقول لا ذلك السحر الذي يقصد به الغشّ والخديعة وتصوير الباطل حقّاً ...
ثانيا : انتقادات عقدية
اتّهم سيّد في عقيدته كما لم يتهم فيها أحدٌ فهو من حيث مصدرها لا يأخذ بأحاديث الآحاد ويحكّم عقله وهو يعتبر الإسلام عقيدةً وشريعةً دينًا ملفقا بين باقي الأديان (النصرانية والمسيحية وغيرها...) وهو لا يعرف معنى التوحيد ويخلط بين الربوبية والألوهية ولا يدعو إلى التحاكم إلى شرع الله عزّ وجلّ وهو مجسّم ومؤوّل ومعطّل وحلولي ووجودي ومعتزلي وأشعري وشيعي وخارجي .... اجتمعت فيه الشرور كلـّها حتى قالوا هو زنديق
وقبل الحديث عن بعض ما رمي به رحمه الله في خصوص نظرية التصوير الفني نعرج على بعض المحطات من أقواله للوقوف على حقيقة عقيدته هذه الأقوال راعينا فيها أمرين اثنين
أوّلا :التطوّر الفكري والعقدي في حياة سيّد قطب فلا نعتمد من أقواله إلاّ المتأخر منها
ثانيًا : ننقل هذه الأقوال من كتبه التي خصّها للحديث عن العقيدة وهي على وجه الخصوص (خصائص التصور الإسلامي) و(مقوماته)
يقول رحمه الله يتحدث عن دور العقل في إدراك العقيدة واستقلاله في معرفة الحقّ : " إنّ هذا العقل الذي وهبه الله للإنسان قادر على تلقي ذلك الوحي وإدراك مدلولاته . وهذه وظيفته .. ثم هذه فرصته في النور والهداية , وفي الانضباط بهذا الضابط الصحيح . فأمّا حين يستقيل هذا العقل بنفسه بعيدا عن الوحي , فإنّه يتعرض حينئذٍ للضلال والانحراف , وسوء الرؤية , ونقص الرؤية , وسوء التقدير وسوء التدبير ... يتعرّض لهذا كلـّه بسبب طبيعة تركيبه ذاتها , في رؤية الوجود أجزاء لا كلاً واحدًا , تجربة بعد تجربة , وحادثة بعد حادثة , وصورة بعد صورة ...حيث يتعذر عليه أن يرى الوجود جملة , ليقيم على أساس هذه الرؤية الكاملة أحكامًا , ويضع على أساسها نظاما , ملحوظًا فيه الشمول والتوازن ...ومن ثم يظل ـ حين ينعزل عن منهج الله وهداه ـ يرتاد التجارب ويغير الأحكام , ويبدل النظام ويضطرب بين الفعل وردود الفعل , ويتخبط من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال ... وهو في ذلك كلـّه يحطم كائنات بشرية عزيزة , وأجهزة غنسانية كريمة ... ولو اتّبع الوحي لكفى البشر هذا الشرّ كلـّه ...... ويتعرّض لهذا ـ بعد طبيعة تركيبه ـ بسبب ما ركب في الكيان البشري من شهوات وأهواء ونزعات , لا بدّ لها من ضابط , يضمن أن تؤدي وظائفها في استمرار حياة البشرية وارتقائها , ولا تتعدى هذا الحدّ المأمون فتؤدي إلى تدمير الحياة أو انتكاسها ... وهذا الضابط لا يمكن أن يكون هو العقل البشري وحده , فلا بدّ لهذا العقل الذي يضطرب تحت ضغط الأهواء والشهوات والنزعات ـ وهي شتى ـ من ضابط آخر يضبطه هو ذاته ويحرسه بعد أن يضبطه من الخلل أيضًا , ويرجع إليه هذا العقل بكلّ تجربة و كلّ حكم في مجال الحياة البشرية ....والذين يزعمون للعقل البشري درجة من الأصالة في الصواب كدرجة الوحي , باعتبار أنّ كليهما ـ العقل والوحي ـ من صنع الله فلا بدّ أن يتطابقا ... هؤلاء إنّما يستندون إلى تقريرات عن قيمة العقل قال بها بعض الفلاسفة من البشر , ولم يقل بها الله سبحانه وتعالى ..."[11]
فهل يصحّ أن يقال بعد هذا سيّد معتزلي ... وهل هناك ردّ أفضل من هذا الردّ على من يزعم استقلال العقل بمعرفة الحقّ
يقول رحمه الله متحدثا عن سفسطة الفلاسفة وجدل علماء الكلام وخطرهم على عقيدة الإسلام : "...وبعد فلا بدّ أن نقول كيف عالج القرآن المكي قضية العقيدة في خلال الثلاثة عشر عامًا ... إنه لم يعرضها في صورة "نظرية" ولم يعرضها في صورة "لاهوت" ولم يعرضها في صورة جدل كلامي كالذي زاوله فيما بعد ما سمي بـ "علم التوحيد" أو "علم الكلام" ... كلا , لقد كان القرآن الكريم يخاطب فطرة "الإنسان" بما في وجوده هو و بما في الوجود من حوله من دلائل وإيحاءات ...." [12]
وفي كتابه خصائص التصور الإسلامي ومقوماته الذي خصّه للحديث عن العقيدة يقول رحمه الله :"...كذلك وجد بين المفكرين المسلمين من فتن بالفلسفة الإغريقية ـ وبخاصة شروح فلسفة أرسطو ـ أو المعلم الأوّل كما كانوا يسمونه ـ وبالمباحث اللاهوتية ـ "الميتافيزيقية" ـ وظنوا أنّ "الفكر الإسلامي" لا يستكمل مظاهر نضوجه واكتماله , أو مظاهر أبهته وعظمته ؛ إلاّ إذا ارتدى هذا الزيّ ـ زيّ التفلسف والفلسفة ـ وكانت فتنتهم بتلك الأزياء وقتها . فحاولوا إنشاء "فلسفة إسلامية" كالفلسفة الإغريقية . وحاولوا إنشاء "علم الكلام" على نسق المباحث اللاهوتية مبنية على منطق أرسطو ... وبدلا من صياغة "التصور الإسلامي " في قالب ذاتي مستقل , وفق طبيعته الكلية , التي تخاطب الكينونة البشرية جملة , بكلّ مقوماتها وطاقاتها ؛ ولا تخاطب "الفكر البشري" وحده خطابا باردًا مصبوبًا في قالب المنطق الذهني ...بدلا من هذا فإنّهم استعاروا "القالب" الفلسفي ليصبوا فيه "التصور الإسلامي" , كما استعاروا بعض التصورات الفلسفية ذاتها ؛ وحاولوا أن يوفقوا بينها وبين التصور الإسلامي ... أما المصطلحات فقد كادت تكون كلـّها مستعارة ... ولما كانت هناك جفوة أصيلة بين منهج الفلسفة ومنهج العقيدة , وبين أسلوب الفلسفة وأسلوب العقيدة ؛ وبين الحقائق الإيمانية الإسلامية وتلك المحاولات الصغيرة المضطربة المفتعلة التي تتضمنها الفلسفات والمباحث اللاهوتية البشرية ... فقد بدت "الفلسفة الإسلامية" ـ كما سميت ـ نشازًا كاملاً في لحن العقيدة المتناسق ... ونشأ من هذه المحاولات تخليط كثير, شاب صفاء التصور الإسلامي , وصغر مساحته , وأصابه بالسطحية .
ذلك مع التعقيد والجفاف والتخليط . مما جعل تلك "الفلسفة الإسلامية" ومعها مباحث علم الكلام غريبة غربة كاملة على الإسلام , وطبيعته وحقيقته ومنهجه وأسلوبه ...." اهـ [13]
هذا لمن زعم ـ وهم كثير ـ أنّ سيّد أوتي في أخطائه العقائدية من قِبلِ تأثره بالفكر الغربي والفلسفة وعلم الكلام ... ولمن أراد المزيد من التفصيل في بيان عقيدة سيّد قطب العودة إلى كتابه خصائص التصور الإسلامي [14]
1 ـ سوء أدب سيّد مع الأنبياء
ويقصدون ها هنا سوء أدبه مع موسى عليه السلام وذلك لمّا وصفه بالتهوّر والاندفاع والعصبية ...وتفضيله لهارون على موسى عليهما السلام وينقلون نحوَ قوله : "...وهكذا نجد هارون أهدأ أعصابا وأملك لانفعاله من موسى , فهو يلمس في مشاعره نقطةً حساسة و ويجيء له من ناحية الرحمة وهي أشدّ حساسية ويعرض له وجهة نظره في صورةِ الطاعةِ لا حسب تقديره وأنّه خشي وأنَّهُ خَشِيَ إِنْ هُوَ عالَجَ الأمورَ بالعنفِ أنْ يتفَرَّقَ بنوُ إسرائيل شِيعًا بعضُهَا معَ العِجْلِ وبعضُها مع نصيحةِ هارون, وقَدْ أمرَهُ بأنْ يُحافِظَ على بني إسرائيل ولا يُحْدِث فيهم أمْرًا..."[15]
وأوجه النقد والردّ على سيّد ها هنا هي أجملها بعضهم في ثلاثة هي :
الوجه الأول: أنّ موسى عليه السلام في قصته مع أخيه هارون والسامري هو في مقامٍ من مقامات النبوَّة، ولا يستقيم أن يُقال هذا الكلام -وهو أن هارون أملك لأعصابه من موسى- في هذا المقام.
الوجه الثاني: فحوى هذه المقارنة بين هارون وموسى يوغر الصدر على تصرف موسى عليه السلام في إحراقه للعجل ودعوته على السامري وإنكاره على ما أتى قومه من بعده، وأنّ تهدأةَ أخيه له كانت أحق من هذه
التصرفات.
الوجه الثالث: أنّ التفرق حصل في قوم موسى، وهو ما ذكره سيد رحمه الله في الغاية من تصرف هارون عليه السلام، فلا مزيّة في التفضيل هنا إذًا
إنّ جميع ما ذكروه من الانتقادات إنّما أخذ من مفهوم العبارة لا من منطوقها وفي كتب سيّد وعلى رأسها تفسيره في ظلال القرآن من العبارات والجمل الممجدة لأنبياء الله عموما ولموسى على وجه الخصوص الشيء الكثير فلما يِؤخذ بالمفهوم ومفهوم نصٍ واحد ويترك منطوق النصوص التي لا تعدّ ولا تحصى ...ومفهوم العبارة إن صحّ إنما هو من لازمها لا ي ما يؤخذ منها بالمطابقة ولازم المذهب ليس بمذهب , والمفهوم ينبغي أن يعرض على صاحبه فإن قبله فهو كما فُهِمَ وإلاّ ردّ ..[16]
يضاف إلى ذلك كلـّه أنّ قوله "هارون أملك لأعصابه من موسى" لا يقدح في مقام نبوته من وجوه أهمّها :
الأول: أن موسى نفسه أقر لهارون بالأفضلية في الفصاحة واللسان في مقام النبوة والبلاغ ، كما في قوله تعالى (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فارسله معي ردءا يصدقني) .
الثاني: أن كون هارون أملك لأعصابه من موسى لا يعني التفضيل من كل الوجوه وأنه أفضل منه بإطلاق ، كما في الأية السابقة ، ألم يقل أهل العلم أنّ علي أفضل من أبي بكر رضي الله عنه من جهة كونه ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته ووالد أفاده وحافظ ذرّيّته وهذا لا يقتضي تفضيله على أبي بكر من كلّ الوجوه فأبو بكر هو أفضل من مشى على الأرض بعد الأنبياء بنص الحديث ...
الثالث: أن هدوء أعصاب هارون نظرا لما يعلمه من قوم موسى إذا فعل ما فعل موسى بعد ذلك من تحريق العجل مما جعله يعلم أنهم سيفترقون بخلاف ما لو كان موسى موجود أصلا كما كان الحال ، فشدة موسى كانت مناسبة في مكانها ، وهدوء أعصاب هارون التي هي بدون شك يتفضل فيها عن موسى كانت في موقفها المناسب ،
وما ذكره المفسرون لا يبعد كثيرا عمّا قاله سيّد قطب رحمه الله فابن كثير رحمه الله استعمل ألفاظا مثل الخنق والجزع والغيظ ...في حقّ موسى عليه السلام واستعمل في حقّ هارون عليه السلام الرقّة الاعتذار الرهبة ...
فهذا بعض ما يعتذر به لسيّد قطب رحمه الله ولعلّ توسّعه في العبارات وأسلوبه الأدبي هو سبب هذا الظنّ وهذا الحمل ...
2ـ التأويل :
إنّ عقيدة سيّد في باب الصفات يبدو فيها شيء من التدبدب فهو عند تعرضه لبعضها يثبتها كما جاءت دون تأويل ولا تشبيه ولا تعطيل بينما تراه في أخرى يؤوّلها وهو لا يؤوّل ـ نظريا ـ إلاّ في حالتين اثنين
الأولى : إذا أفادت اللغة ذلك التأويل
الثانية : إذا امتنع ظاهر النصّ لمعارضته أصل شرعي
هذا من الجانب النظري وهو في غاية التحقيق وقد قال به علماء السلف ومثـّلوا لذلك بأمثلة كثيرة أهمّها تأويلهم للساق أو للعين في قوله تعالى {تجري بأعيننا} ...
ولكن التزام سيّد بهذين الأصلين لم يكن مطلقا فقد أخلّ به في غير ما موضع من تفسيره ولهذا ترى النقاد يشدّدون من لهجتهم تجاه سيّد قطب إذا تعلق الأمر بالصفات فينسبه بعضهم للجهمية وبعضهم للمعتزلة وأغلبهم يقولون هو أشعري في الصفات
ولعل أهمّ ما يعتذر به لسيّد قطب رحمه الله أنّ العقيدة السلفية يوم ذاك لم تكن في مجتمعه بهذا الوضوح والجلاء التي هي عليه اليوم بل كانت العقيدة الأشعرية هي المنتشرة والمتداولة على أنّها عقيدة أهل السنة والجماعة...
ولو طال به العمر و عاش في زماننا هذا وعرف هذا الانتشار الواسع للعقيدة الصحيحة في الأسماء والصفات لتراجع عن تلك الأخطاء خاصة وأنّ العديد من منتقديه في هذه الجزئية ومن هذه الحيثية كانوا إلى وقت قريب من دعاة الأشعرية وروادها سواء من حيث شعروا أو لم يشعروا
3 ـ التجسيم
المقصود ها هنا تجسيم صفات الله عزّ وجلّ و فقد زعم بعضهم أنّ سيّد رحمه الله بنى نظرية التصوير الفني على ركنين اثنين التجسيم والانفلات من الدين وأنّه استقى ذلك كلّه من تشبعه بالفلسفة الجهمية وتأثره بالصوفية واستدلوا ويا للعجب بعنوان أحد فصول ومباحث الكتاب وهو (التجسيم والتخييل) رغم أنّ سيّد رحمه الله قد بيّن وفي هذا الفصل بالذات بكلام واضحٍ لا يدع مكاناً للشكّ أنّ التجسيم الذي عناه ليس هو تجسيم الجهمية الذي يتناول صفات الله وأسمائه ...وإنّما هو تجسيم فنّي أدبي خاص يقول رحمه الله :"...ونحن نستخدم هنا كلمة التجسيم بمعناها الفني لا بمعناها الديني بطبيعة الحال و إذ الإسلام هو دين التجريد والتنزيه."[17]
4 ـ التعطيل :
هل يعقل بعد الذي تقدم أن يوصف سيّد بالتعطيل (وقد وصفَ به) ؟ هل يعقل أن يجمع الرجل الواحد بين التأويل والتجسيم والتعطيل ؟ طبعا لا لمن كان له أدنى دراية بمعاني هذه المصطلحات ؛ لأنّ المعطّل لا يمكن أن يؤوّل أو يجسّم الصفات وقد نفاها أصلا ...
والمجسّم يثبت الصفات فلا يعطّلها ويثبتها على حقيقتها المرئية في عالم المخلوقات فلا يؤوّلها ...
والمؤوّل مثبت غير معطّل وصارفٌ للصفات عن حقائقها إلى تأويلات يرى أنّ التوحيد والتنزيه يقتضيها ...
فلا يمكن أن يكون الرجل مِوّلا معطّلا ومجسّما في وقف واحد ... لكن قد يقول القائل إ سيّدا قد جسّم بعض الصفات وأوّل أخرى وعطّل أخرى ... وهذا ممكن لكنّه والحالة هذه لن يخرج الأمر حينها على أحد الأوجه الثلاث:
ــ إمّا أن يقال إنّ لسيّد أصولا عقائدية انفرد بها دون سائر الفرق دعته إلى الجمع بين التجسيم والتعطيل والتأويل فعلى مدعي ذلك أن يأتينا بهذه الأصول التي بنى عليها سيّد ـ زعما ـ معتقده الفاسد
ــ وإمّا أن يقال إنّ هذه التهمّ التي رُمي بها مجرد افتراءات وادّعاءات لا غير أو أنّها فُهِمت بخلاف قصد صاحبها وقائلها ..
ــ وإمّا أن يقال إنّ سيّد رحمه الله لم تكن المناهج العقائدية واضحة جليّة في ذهنه وفهمه ممّا جعله يسقط في بعض الأخطاء دون أن يلتزم بمذهب بدعي معيّن يأخذ بأصوله ويطبقا على القرآن كلّه ...
ثالثا : انتقادات أدبية (علمية) تخصّصية
1 ـ ما ذكره سيّد لا يعدُّ جديدا ولا تجديدا بل جميع ما ذكره موجود في التراث العربي القديم (الجاحظ , الجرجاني ,الزمخشري ) وكلّ ما أحدثه هو استعماله لمصطلحات جديدة لا غير
ويستدلون بنحو قول رائد البلاغة العربية الجاحظ (255هـ) :"المعني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي , وإنّما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وفي صحّة الطبع وجودة السبك فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير..."اهـ [18] يرى كثير من النقاد أنّ الجاحظ من خلال هذه المقالة قد وضع يده على أحد أهم عناصر التصوير وهو جرس الحروف والألفاظ التي يسميها النقاد المعاصرون وعلى رأسهم سيّد قطب بموسيقى الألفاظ يظهر ذلك في قوله (إقامة الوزن) وكذلك التأثير الحسي الذي أشار إليه بقوله (كثرة الماء) ولهذا يخلص كلٌّ من إبراهيم الزرزموني في (غواية الصورة)[19] وعبد الإله الصائغ في (الصورة الفنية معيارا نقديا) إلى عِظم فضل الجاحظ على من جاء بعده ودوره في توجيه النقاد والبلاغيين الذين جاءوا بعده حيث "حاولوا أن يصبوا اهتمامهم على الصفات الحسية في التصوير الأدبي وأثره في إدراك المعنى وتَمَثُلِه , وإن اختلفت آراؤهم وتفاوتت درجاتها..."
ثمّ توسّع عبد القاهر الجرجاني في حديثه عن الصورة وللدكتور عمر محمد الطالب من جامعة الموصل كلية التربية بحث قيّم في الموضوع بعنوان (نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني وعلاقتها بالصورة الشعرية) ذكر فيه الشوط الكبير الذي قطعه عبد القاهر الجرجاني في حديثه عن التصوير
ثمّ جاء بعدهم الزمخشري الذي تتبّع آيات القرآن الكريم كلـّه محاولا تطبيق نظرية النظم للجرجاني وأشار في غير ما موضع إلى التصوير
فليس لسيّد أن يدّعي السبق في اكتشاف الصورة الفنية
وهذا غير صحيح من وجوه عدّة ومناحي شتّى :
ü إنّ الصورة عند القدماء ليست هي الصورة في فنّ النقد الحديث , فقد استعمل قديما أئمة كُثر لفظة الصورة وكلّ واحد منهم عَنى بها معنىً مغايرٍ للمعنى الاصطلاحي المعاصر بل مفهوم الصورة يختلف حتى بين الأقدمين أنفسهم [20]
ü إنّ المتقدمين تكلموا عن بعض أجزاء التصوير كجرس الألفاظ والحروف وما يتعلق بتناسق عناصر الصورة ...ولكنهم لم يتعرضوا البتّة لباقي عناصر التصوير كالحركة والإطار والألوان والظلال وغيرها...
ü إنّ هذا التوسع في الحديث عن الصورة سواء من حيث التنظير أو التطبيق لم يُعْلم عند أحدٍ قبل سيّد قطب رحمه الله
ü إنّ النقاد والأدباء والمتخصصون يكادون يجمعون على أنّ سيّد له الفضل في اكتشاف هذه النظرية يقول الشيخ الأديب علي الطنطاوي أحد معاصري سيّد قطب : ( ...كتاب التصوير الفني في القرآن فتح والله جديد , وسيّد قطب وقع على كنز من كنوز القرآن , كأنّ الله ادّخره له فلم يعط مفتاحه لأحدٍ قبله , حتى جاء هو ففتحه ...)[21]
2 ـ إنّ ما قاله سيّد لا يعدّ نظرية بل مجرد رؤية ووجهة نظر في بعض الأساليب البيانية في القرآن الكريم وعدّها نظرية بمعناها الاصطلاحي فيه نوع من التوسّع والتجوّز ومثل هذا يقال في كثير ممّا يسمونه بنظريات الإعجاز الحديثة عند العديد من المعاصرين كمصطفى صادق الرافعي ودراز ورشيد رضا ومالك بن نبيّ وغيرهم ....
نعم إنّ وصف العديد من البحوث الحديثة والمعاصرة في موضوع الإعجاز بالنظريات فيه نوع من التجوّز والتوسّع خاصة وأنّ أصحابها إنّما ركزوا على جزئية من جزئيات الإعجاز البياني للقرآن الكريم تناولها القدماء ولكنّه قصر الحديث عليها بشيء من البيان زائدٍ ومن التفصيل محكمٍ وتتبعوا مواضعها واستقرؤوها ... ومثل هذا العمل لا يعدّ نظرية بل مجرد تطبيق وتفصيل وتوسّع لا غير
فهل كلام سيّد قطب عن التصوير الفني في القرآن الكريم يندرج تحت هذا النوع ممّا لا يعدّ نظرية ولا تجديدا أم أنّه فعلا كما قال نظرية في الإعجاز جديدة لم يتعرض لها أحدٌ قبله
للجواب على هذه الإشكالية سنحاول النظر في حقيقة النظرية عند المتخصصين ثم نقارن بينها وبين ما جاء به سيّد قطب على هي بذات المواصفات فنقول عنها نظرية أم أنّها مجرد فرضية أو نظرة أو وجهة نظر؟
تُعرّف النظرية بقولهم : (وصف لأساسيات ظاهرة ما مع وجود حقائق علمية داعمة ) أو هي (مجموعة من المعطيات توّحد بطريقة منطقية ظاهرة معرفية معيّنة )
المقصود بوجود الحقائق العلمية الداعمة أن تكون مبنية على أدلة لا على مجرد الظنّ والتخمين ومن هذه الدعائم الاستقراء الكلـّي أو الجزئي استقراءًا يصف الظاهرة وصفا علميا بعيدًا عن الخيال والخرافات والأساطير وأن لا يوجد ما يعارضه أو يناقضه
للنظرية أركان لا بدّ من توفرها فيها وإلاّ لم تعدّ كذلك
الركن الأوّل : مجموعة من الوحدات (حقائق , مفاهيم , متغيرات...)
الركن الثاني : نظام من العلاقة بين الوحدات
الركن الثالث : الحقائق أو الأسس الداعمة أو المثبتة لهذا النظام أو لهذه العلاقة
وظائف النظرية : اختلف العلماء اختلافا لا يكاد ينضبط حول تعريف النظرية وحول أركانها لكنّهم متفقون على تعداد وظائفها ولعل أهمّها :
ـ الوصف : يهدف إلى تقديم تعريف دقيق للمصطلحات المستخدمة في النظرية يضبط بها (التعريفات) عناصر النظرية
ــ الشرح : يقصد به شرح الشيء من خلال التوصل إلى علاقة بينه وبين المعارف ...
ــ التنبؤ : وهو يشير إلى ميل بعض النظريات إلى التنبؤ بأمور مستقبلية , بل يرى بعض الباحثين أنّ المعيار الحقيقي للنظرية يكمن في مدى قدرتها على التنبؤ
والنظرية مهما بلغت من الصحّة والدقّة لا يلزمها وصف الثبات بل قد يحدث ويجدّ من العلم ما ينسخها ويبطلها ...
ثمّ لننظر الآن هل تنطبق هذه المواصفات على ما قدّمه سيّد رحمه الله على أنّه نظرية ؟
نعم كلّ ذلك ينطبق فقد تقدّم سيّد بفرضية جمع فيها جزئيات عدّة وعناصر شتّى هي آيات القرآن المختلفة وادّعى أنّ كمًا كبيرا منها تربطه علاقة معيّنة ونظام محدّد هو نظام التصوير الفني وقد دعّم هذه الفرضية باستقراء نصوص القرآن استقراءًا كليًّا ....أفلا يحقّ لنا بعد هذا كلـّه أن نقول إنّها نظرية بكلأّ ما تحمله هذه الكلمة من معنىً ...[22]
3 ــ منع أصل التصوير الأدبي وانتقاده لأنّه مبني على أساس فاسدٍ هو المسرح والسينما والموسيقى :
يقول صاحب (نظرات في كتاب التصوير الفني) [23]: " إنه في عمله هذا ما كانت تحجزه عقيدة عن تطبيق قاعدته الفاسدة على نصوص القرآن بما يتبع تلك القاعدة من عرض مشاهد سينمائية ومسرحية وتمثيليات وتصوير وموسيقى بأنواعها وقواعدها ومناظر ونظارة إلخ … حيث جعل معظم نصوص القرآن مجالاً فسيحاً لهذه الاختراعات اليهودية والنصرانية بل والإلحادية لإفساد الدين والأخلاق." ويقول أيضًا : " أما التمثيل فأصله عبادة وثنيه اخترعه اليونان وأخذه عنهم الرومان ونشره الكفار في بلاد المسلمين لما استعمروها وأهلها واستخدموا كل سلاح لإفساد المسلمين في دينهم وأخلاقهم ومنها دور السينما والمسارح والملاهي والتمثيليات الشيطانية ولاشك أن التمثيل حرام:-
1-لما فيه من الكذب إذ الكذب ركن من أركانه.ولما استخدمه سيد قطب وقع في الكذب كما سيأتي في مناقشته.
2-ولما فيه من التشبه بالكفار وتقليدهم الأعمى فيه.
3-ولما فيه من تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال واختلاط الجنسين فيه.
ولذا شدّد كثير من العلماء في إنكاره ومنهم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز والشيخ الألباني والشيخ حمود التويجري والشيخ صالح الفوزان والشيخ صالح اللحيدان. وقد ألفت كتب في تحريمه لأهل السنة بل ولأهل البدع كالشيخ الغماري...."
إنّ الحركة والصورة والمَشاهد والمُشاهِد والنظارة وإنزال الستار ... وغيرها من المصطلحات إنّما عَنى بها سيّد ما يتخيله القارئ لكتاب الله حين يتفاعل مع النص القرآني بأحاسيسه كلـّها وهذه المصطلحات وإن كانت موافقة لما يستعمل في المسرح والسينما فإنّ ذلك لا يقتضي بالضرورة أن تكون مأخوذة منه , ثمّ وإن كانت مقتبسة من المسرح والسينما فما الذي يضرّ في ذلك إذا كان المحظور فيهما (المسرح والسينما) أشياء أخرى تتعارض وأصول الشريعة غير هذه المصطلحات المستعملة ها هنا
لأنّ المحظورات المذكورة في كتب الفقه (بما في ذلك الكتب والفتاوة التي ذكرها الكاتب) إنّما هي عند البعض الكذب وعند الكثيرين الصور والمشاهد المحرمة كتلك التي تصور الاختلاط والتبرج والانحلال ...
ثمّ إنّ سيّدا وإن استعمل مصطلحات لها علاقة بالمسرح والسينما لكنّه بعيد كلّ البعد عن هذين المجالين حتى يقال إنّ نظريته قائمة عليهما فهو ها هنا يكتب ما يُشِعُّه اللفظ من أحاسيس وصور وظلال نتيجة تفاعل القارئ بأحاسيسه مع النصّ القرآني ولا مشاحة في اللفظ والاصطلاح
4 ــ منع أصل نظرية التصوير لأنّها قائمة على الصورة والتصوير المحرم شرعا لمنافاته مع عقيدة التوحيد ...
يقول صاحب نفس الكتاب : " وقال تعالى: } ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت { [24]، ومن الطواغيت الصور التي شرعها الشيطان وأضل بها أجيالاً وأجيالاً من عهد نوح وإلى يومنا هذا وبعث الأنبياء بخلعها وتحطيمها وتطهير الأرض والعقول منها روى البخاري في صحيحه في تفسير سورة نوح حديث (4920)” أن وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسرا أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت”، والشاهد أن التصوير من وحي الشيطان وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المصورين وقال صلى الله عليه وسلم:" إن أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصورون” أخرجه البخاري (5950)، وورد في تحريم التصوير عدا هذين الحديثين أحاديث أخر مما يبين شدة تحريم التصوير وأنه من الكبائر.
وسيد قطب يستحله ويفسر به كتاب الله ويرى ذلك من أرقى ما يفسر به القرآن وقد استعان في"كتابه التصوير الفني في القرآن" بالأستاذ الفنان ضياء الدين محمد -مفتش الرسم بوزارة المعارف- في مراجعة القسم الخاص بتناسق التصوير انظر كتاب التصوير الفني في القرآن ص(114)..."[25]
هل رأيتم سيّد حامل ريشة وألوان يرسم ويصوّر أرواحا يطالبُ يوم القيامة ببثّ الروح فيها ...أم هي مشاعر وأحاسيس يجدها القارئ لكتاب الله في نفسه وهو يقرؤه يحاول سيّد أن ينقلها ويتحدث عنها ... ولكن يبدو أنّ سبب هذا الخلط هو أنّ بعض منتقدي سيّد قد حشروا أنفسهم فيما لا يحسنون بل ولا يعلمون حتى فيما هو خارج عن تخصصهم وبعيد من مشاربهم ومواردهم ...
5 ــ منع أصل التصوير لأنّه كذب وافتراء على النصّ وعلى صاحب النصّ
يقول صاحب نفس الكتاب :" انظر إليه كيف يدعي أنه مع غيره يشهدون أهل الكهف فهل هو حقاً شهدهم فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله له } لَوَلَّيتَ مِنهُم فِرَاراً وَلَمُلِئتَ مِنهُم رُعْباً {[26]، فرسول الله وأصحابه لم يروهم فكيف يصح قول سيد” ها نحن أولاء نشهد أهل الكهف يتشاورون في أمرهم.فإذا رفع الستار مرة أخرى وجدناهم قد نفذوا ما استقر عليه رأيهم فها هم نراهم في الكهف نراهم رأي العين فما يدع التعبير شكاً في أننا نراهم”.
وهذا كذب واضح في تفسير كتاب الله وفي أحسن القصص."[27]
ويقول أيضا : " وهذه المسرحية فيها كذب لأن سيد قطب ومن عاصره بعد قصة أصحاب الجنة بقرون كثيرة فكيف يصح قوله:"وظللنا نحن النظارة نضحك منهم وهم يشاهدون أصحاب الجنة وهذا شأن التمثيليات والمسرحيات.....
فهل كان سيد قطب من الحاضرين المشاهدين وهل علم بحضور العرش بين يدي سليمان قبل بلقيس ؟ ومن هم هؤلاء النظارة ؟ وهل هذا البطل رجل أو امرأة ؟ وهكذا إلى آخر هذه المهزلة التي يفسر بها سيد قطب كلام الله باسم الفن الذي يراه سيد قطب صنو الدين وهل هذا حقاٍ من الخصائص الفنية في القرآن ؟...."
هذه سذاجة ما بعدها سذاجة ... وهذه هي النتيجة الحتمية لمن حشر نفسه فيما لا يحسنه وفيما ليس من تخصصه ...
التشبيه بمختلف صوره وأشكاله أليس قائم على التصور والتخييل ... وهل قال أحدٌ إنّه كذب وافتراءٌ لا يجوز استعماله في القرآن هل يسمى من شبّه الشجاع بالأسد كاذب
وهل ادّعى أحدٌ أنّه كان حاضرًا حقيقةً في الحوادث والقصص التي نقل القرآن وقائعها ؟ أبدًا بل الكلام هنا على ذلك الشعور الذي يجده القارئ لكتاب الله عزّ وجلّ ... فيقرأ الآيات ويستشعر ما فيها من مواضيع وأغراض وقصص وحوادث كأنّه يعيشها وكأنّه يسمعها زيراها ...
رابعا : إشكالات وتساؤلات أثارها سيّد من خلال منهجه في بحث وعرض نظرية التصوير
1 ــ ما ذا يقصد سيّد بعدم التقيّد بالعقيدة في دراسته الفنية والجمالية للقرآن ؟
يقول سيّد رحمه الله : "وأنا أجهر بهذه الحقيقة الأخيرة , وأجهر معها بأنّني لم أخضع في هذه لعقيدة دينية تغلّ فكري عن الفهم ...."[28]
سمى بعض الدارسين هذا تحللا وانفلاتا من الدين فهل هو فعلا كما قالوا؟
إنّ هذا الذي سمّوه انفلاتا وتحلـُّلا نسميه نحن تجردًا...تجرد واجب لإثبات إعجاز القرآن وفضله ونهاية جماله ؛ لأنه رحمه الله أراد إثبات إعجازه لا من جهة كونه مؤمنا بأنّه من عند الله تعالى فإنّ طائفة كبرى من المخاطَبين لا يُقِرون بذلك فلا وجه للاستدلال بمحلّ الخلاف كما يقول الأصوليون ... وإنّما أثبت ذلك من الجهة الفنية الصناعية الأدبية الصرفة وهو شيء لا ينكره مؤمن ولا كافر ... ولهذا السبب ذاته بدأ نظريته بإثبات إعجاز القرآن البياني في حقّ المؤمنين والكافرين على حدٍّ سواء من خلال حديثه الطويل عن قصة الوليد بن المغيرة وكفار قريش و العرب قاطبة من جهة وعمر والمؤمنين الأوائل رضي الله عنهم من جهة أخرى ... وقد التزم بهذا التجرد جميع من تكلم في الإعجاز دون أن يصرحوا به لأنّه معلوم لا يحتاج إلى بيان ...
ثمّ إنّ التجرد لا يقتضي القدح في العقيدة والتهجم عليها بالضرورة يقول عليه رحمة الله : "ولكن تحرير العقل لا يستدعي حتما التهجم والتوقح والشطط ..."[29] ثمّ راح بعد هذا الكلام يطبق قاعدته وطريقته في الدفاع عن القرآن الكريم والبحث عن جماله وأسراره ليس من منطلق ديني ولكن من منطلق فني خالص ... طبّق هذا الأسلوب للردّ على منكري واقعية القصة في القرآن ردًّا علميا فنّيا بعيدا عن معتقده الديني لا لشيء إلاّ ليكون أوكد وأبلغ في الدلالة والحجية ولأنّ المخاطبين لا يقرون في الغالب الأعم بهذه العقيدة ...
2 ــ ما ذا يقصد سيّد بكون الدين والفنّ صنوان ؟
أنّهما غير متعارضين
صنوان في خدمة النصّ القرآني
أنّ القرآن كما اهتم بالجانب الديني وهو الأصل اهتم كذلك بالجانب الفني
...................................
3 ــ هل خواطر سيّد وحديثه عن التصوير في القرآن يعدُّ تفسيراً له ؟
وهل ما قاله عبد القاهر الجرجاني يعدّ كذلك ؟ بل هي نظرة جزئية لبعض آيات القرآن الكريم أو قل هي نظرة تخصصية لا غير
4 ــ هل أحطّ سيّد من قدر السلف وقدح في فضلهم وعلمهم لما نفى عنهم فهم تأثير القرآن ؟
ما قاله سيّد ها هنا هو ما قاله جلّ إن لم نقل كلّ من سبقه من النقاد وهو أنّ تذوق القرآن قديم قدم النص نفسه لكن تحديد مواطن وأسباب ودقائق هذا الجمال بطريقة نقدية أدبية جاء متأخرا بعض الشيء وأنّ المرحلة الأولى في النقد الأدبي هي مرحلة الأحكام الذوقية الغير معلـّلة والأحكام الذاتية التي تختلف من شخص لآخر بسبب عدم انضباطها بعلل معلومة محدّدة ...
الـخـاتـمـة
وفي ختام هذا العرض نودّ تقديم بعض الفوائد التي استخلصناها ونراها جديرة بالتسجيل والملاحظة ...
1) إنّ التصوير الفني عند سيّد رحمه الله أخصّ من التصوير في النقد الأدبي المعاصر لأنّه رحمه الله قصره على ما يطال الأحاسيس من مشاهد وصور وحركة وألوان وظلال ونغم وموسيقى وجرس ...
2) قصرنا الحديث عن الإعجاز من خلال التصوير الفني عند سيّد وإلاّ فإنّه رحمه الله يرى الإعجاز أعمّ من ذلك بكثير كما سيأتي في الملاحظات الأخيرة
3) نعم إنّ ما جاء به سيّد يعدُّ بحقٍّ نظرية جديدة في الإعجاز البياني للقرآن الكريم بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من دلالات علمية ؛ اصطلاحية وموضوعية
4) الانتقادات التي وجِهت لسيّد بخصوص هذه النظرية محصورة في نقاط ثلاث :
ü من حيث الاصطلاحات المستعملة
ü مزالق عقدية كتأويل بعض الصفات
ü إشكاليات ظهرت للبعض من خلال عبارات عامة موهمة لبعض المحظورات
وجميع هذه الانتقادات جانبية (حتى وإن كانت ربّما بالغة الأهمية) لا تقدح في أصل نظرية التصوير الفني ...
وهذه ملحوظات لم نذكرها في صلب البحث على شدّة أهميتها وتعلقها بالموضوع :
الملحوظة الأولى :
لا عجب في كون سيّد رحمه الله قد توصّل دون من سبقه من علماء البلاغة والنقد إلى اكتشاف أسلوب التصوير في القرآن الكريم أو على الأقلّ إلى هذا التوسع الكبير والتفصيل الدقيق في الحديث عن التصوير سواء من الناحية التنظيرية بما سطّره من تعريف التصوير وبيان أركانه ودوره في النقد الأدبي الحديث في كتابيه (التصوير الفني في القرآن الكريم) و(النقد الأدبي أصوله ومناهجه) أو من الناحية التطبيقية لما حاول تتبع تصوير القرآن في جميع سوّره وآياته في كتابيه (مشاهد القيامة في القرآن) و(في ظلال القرآن) ... لا عجب إذًا في كونه وقع على هذا الكنز الثمين كما قال السيّد طنطاوي وقد أمضى حياته كلـّها يبحث في جماليات النصوص ينتقد أساليبها ويبحث عن أسرارها البيانية والبلاغية ...ولكن ليس لهذا السبب فقط بل لعل أهمّ ما مكّن سيّد من الوقوف على هذه النظرية دون من سبقه هو تشبعه الكبير بثقافة عصره ... لأنّ فهم أيّ نصٍ وتذوّقه لا يتوقف على ألفاظه وعباراته ولا على سياقه وحال مصدره فقط بل يتوقف على ثقافة متلقيه (قارئه وسامعه ) .
والتصوير الفني لم يظهر في العصر الحديث إلاّ بعد أن أخذت الصورة وخاصة الصورة المتحركة أبعادا كبيرة وتقدمت أشواطا كثيرة داخل المجتمعات المعاصرة فأصبحت من ثقافة الناقد ومن مكنوزاته المعرفية سواء شعر بذلك أم لم يشعر...وهذا هو السبب الرئيس والله أعلم من وراء اختصاص سيّد بل وهذا العصر دون سواه من العصور المتقدمة بالحديث عن التصوير ....
وليس بمحتا أن تظهر في المستقبل البعيد أو القريب أساليب نقدية وأوجه بلاغية جديدة جدّت بجِدّةِ العصر وثقافة العصر ...
الملحوظة الثانية :
سيّد رحمه الله لا يعتبر التصوير الفني هو الوجه الوحيد لبلاغة القرآن الكريم بل هناك أوجه أخرى يقرّ بها ويرى للمتقدمين الفضل الكبير في اكتشافها والحديث عنها لعلّ من أبرزها وأهمّها بلاغة الألفاظ والمعاني وأنواع كثيرة من التناسق والتناسب... لكن التصوير عنده هو أوجهها وأهمّها لأنّه يحمل في طياته جلّ ما ذكره المتقدمون من أوجه الإعجاز وزيادة ... ولأنّه الأكثر اطّرادا واستعمالا في القرآن الكريم ...
الملحوظة الثالثة :
بلاغة القرآن يرى كلّ المتخصصين وأغلب الدارسين أنّها الوجه الأعظم في إعجاز القرآن الكريم وأنّ التحدي وقع بها دون سواها من أوجه هذا الإعجاز .....
ولكن لسيّد وجهة نظر مخالفة فهو يرى أنّ أعظم وجه من أوجه إعجاز القرآن الكريم يتمثل في كونه منهج حياة كامل ومتكامل للبشرية جمعاء في آحادها وأفرادها وفي مجتمعاتها وأممها ... وعلى ذلك فالتحدّي واقع بالقرآن كلـّه ببلاغته وتشريعه وبكلّ ما فيه لا ببلاغة القرآن فقط ..
اقتراح :
وفي آخر هذا البحث نتقدم للأستاذ الكريم وللزملاء الأفاضل باقتراح رأيناه مهمًّا ومناسبا لهذا البحث ؛ ألا وهو محالة تقديم دراسة عملية مهمّة لم يقم بها إلى حدّ الآن أحد من الدارسين والباحثين , يتمثل هذا البحث في محاولة تتبع تطبيقات نظرية التصوير الفني لسيّد قطب من خلال كتابه (في ظلال القرآن)
[1] دراسة جميع الانتقادات التي وُجّهت لسيّد قطب رحمه الله وتتبّعها من حيث صحتها وخطأها مشروع أسأل الله أن يتمّه بعد (سيّد قطب الرجل والتفسير) و (سيّد قطب ونظرية التصوير الفني)
[2] حول تراجعاته وكلامه عن مراحل حياته السالفة يراجع عرض (سيد قطب الرجل والتفسير) لصاحب هذا العرض قدّمه في السنة الثانية لأستاذة التفسير (الأعمال الموجّهة)
[3] وهذا بغض النظر عن الجانب العقدي أو الفقهي في هذه النظرية
[4] راجع : نظرات في كتاب التصوير الفني في القرآن , ربيع بن هادي عمير المدخلي , الفصل السادس بعنوان : التصوير الفني , نسخة منزّلة من موقع الشيخ ص35
[5] التصوير الفني 255 مشاهد القيامة 266
[6] التصوير 256 مشاهد القيامة 267
[7] ربيع بن هادي المدخلي , نظرات في كتاب التصوير الفني في القرآن الكريم لسيّد قطب , نسخة منز<لة من موقعه الخاص , المبحث السابع تحت عنوان : إطلاق سيّد قطب السحر على القرآن كرات ومرات
[8] ابن فارس , مقاييس اللغة , دار الفكر بيروت (د.ت) ص507
ابن فارس , المجمل في اللغة , دار الفكر بيروت 1414هـ 1994م , ص370
الراغب الأصبهاني , معجم مفردات ألفاظ القرآن , دار الفكر بيروت 1427هـ 2006م , ص107
[9] سيّد قطب , في ظلال القرآن , دار الشروق بيروت الطبعة الثامنة والثلاثون 1430هـ 2009م , 5\2612
[10] المصدر نفسه , 4\2340
[11] في ظلال القرآن 2\1098
[12] المصدر نفسه é\ 1011 ـ 1012
[13] سيّد قطب , خصائص التصور الإسلامي ومقوماته , دار الشروق , الطبعة الثامنة 1403هـ 1983م , ص11
[14] وانظر كذلك :في ظلال القرآن : 1\ 106 ـ 290 ... 2\ 723 ...1066 ... 1097 وما بعدها 3\1204 ...1226...1296 ...1530 ـ 6\3477 ...3730 , 3731 ـ إلخ ...
[15] في ظلال القرآن 4\2348 التصوير الفني 200 وما بعدها
[16] راجع المسألة في القواعد المثلى للشيخ ابن عثيمين عند تعرضه لقاعدة المطابقة واللزوم والتضمن
[17] التصوير الفني 229
[18] الجاحظ , الحيوان , بتحقيق عبد السلام هارون , المجمع العلمي العربي الإسلامي , بيروت الطبعة الثالثة 1969م , 3\13
[19] تقدمت الإشارة لهذين المرجعين في فصل الصورة الفنية في النقد الأدبي
[20] فالصورة عند الجاحظ غيرها عند الجرجاني والصورة عند هذا الأخير غيرها عند قدامة بن جعفر وهكذا وقد أشرنا إلى مثل هذا الخلاف في الفصل الثاني من هذا العرض ولمن أراد مزيد بيانٍ فليرجع إلى رسالة (غواية الصورة الفنية ) لإبراهيم أمين الزرزموني
[21] حسين بن محمود , مراحل التطور الفكري في حياة سيّد قطب , دار الجبهة للنشر والتوزيع , شعبان 1429هـ , نسخة منزّلة من الشبكة
[22] انظر تفصيل أكثر عن تعريف النظرية وأركانها وشروطها في : wekipidia , Encarta, universalis,answer.com .موسوعة الأزهر ......
[23] انظر الأصل السادس من مبحث (اصول سيّد قطب التي بنى عليها تفسيره لآبات القرآن الكريم التي جعلها مجالا لتطبيق أصوله ونظرياته) من كتاب : نظرات في كتاب التصوير الفني لربيع المدخلي
[24] سورة النحل 38
[25] المصدر السابق , في آخر حديثه عن أصول نظرية سيّد في التصوير ...
[26] الكهف 18
[27] المرجع السابق , آخر مبحث (العرض السينمائي في القرآن في نظر سيد قطب)
[28] مشاهد يوم القيامة ص266
[29] المصدر نفسه 269[